ضمن مهرجان «شاشات الواقع» المستمرّ حتى السابع من أيار (مايو)، يُعرض فيلم Moonage daydream الذي يعدّ علامةً بارزةً في الأفلام الوثائقية. معجزة برت مورغان، لا شيء يضاهيها، عمل عظيم بشكل لا يصدّق. كل لحظة فيه هو هدية من ديفيد بوي (1947 – 2016) لنا. ما حقّقه مورغان معجزة سينمائية وثائقية، من خلال قدرته على الحفاظ على جوهر ديفيد بوي على المستويين الموسيقي والسردي. صنع فيلمه بيدٍ تقدّر قيمة بوي، جميعنا تأثرنا وما زلنا ببوي. وبعد ساعتين وربع الساعة، سوف يجعلنا مورغان مؤمنين به مرة أخرى. حرباء لا مثيل لها، هو الذي يقول «أنا جامع الشخصيات». ذهب بوي وفعل كل شيء من الموسيقى إلى المسرح والسينما والفن التشكيلي، لأنه سعى دائماً إلى إعادة اختراع نفسه لالتقاط جوهر حياته (حيواته). والشيء نفسه فعله مورغان في فيلمه، رحلة متعددة الأوجه والأبعاد بأسلوب خاص غير سردي، تجريبي وغامر.مورغان الذي اقترب من كيرت كوبان في فيلم Montage of Heck (2015)، كان يتمتع بامتياز الوصول إلى كل أرشيف ديفيد بوي، وآلاف الساعات من المواد (العديد منها لم ينشر سابقاً). كان المخرج والمحرر والمنتج وكاتب الفيلم... لعب دوراً متعدد الأوجه مرة أخرى لبعث الحياة في شخص ترك أثراً كبيراً، وقدمه في فيلم كأنه حلم يقظة. لا إعادة بناء لطفولته، ولا سرد زمنياً، ولا تمجيد لإنجازاته العظيمة. ركز مورغان قبل أي شيء على أوقاته (السبعينيات، إقامته في برلين، تعاونه مع براين اينو) وبنى خليطاً مرئياً سمعياً ينبض بالحياة. في الفيلم نستمع كثيراً لبوي وهو يعطي رأيه في قضايا تراوح من الفن إلى الفلسفة، مروراً بأبعاده الروحانية. بوي هو رمز الموسيقى والأزياء والفن والجنس، وقبل أي شيء صاحب الذكاء الحادّ وأحد قلّة ممن امتلكوا تصوّراً لعملهم والعالم بشكل عام. قدم مورغان وثائقياً فريداً جمع الألوان والموسيقى والرسوم المتحركة ومشاهد من حفلات بوي وأفلامه ومسرحياته ومقابلاته، ما يتيح لنا معرفة المزيد عنه. في الفيلم وحياة بوي، تكرّرت كلمتان: التغيير والعزلة. التغيير في أنواع الموسيقى والشخصيات من Ziggy إلى Duke مروراً بهالوين جاك و The Soul Man، والعزلة التي كان يبحث عنها وراء هذه الشخصيات نفسها. كرّر أيضاً في الفيلم أنّه كان يخشى أن يُصاب بالفصام الذي أصاب شقيقه الأكبر، لكنه وجد في موسيقاه وفنه وشخصياته طريقة لاحتواء شياطينه. يوضح الفيلم إلى أي مدى ارتبطت كل مرحلة من هذه المراحل بالبحث عن هوية قابلة للتغيير، وأنّ هذا التحول التطوري تحول إلى عقيدة وجودية لغريب استحوذ على الثقافة الجماهيرية كلّها.
ما حقّقه برت مورغان معجزة سينمائية وثائقية من خلال قدرته على الحفاظ على جوهر بوي على المستويين الموسيقي والسردي


يروي بوي قصته بنفسه، كما لو أن مورغان قد أجرى مقابلة معه أمس. تبدو الحفلات والمقابلات كأنها آنية، والصور تتّبع منطق تدفق الأحلام. يعود بوي من سراديب الموتى التاريخيين كل لحظة، ليقدم نفسه كشيء جديد. ينتقي الفيلم بعناية مقتطفات من المقابلات ومقاطع الحفلات ولقطات من مشاريع بصرية أخرى، بحيث يخبر بوي قصته بنفسه. كل لحظة في الفيلم مختارة بعناية لتظهر العظمة البصرية والسمعية التي اعتادت أن ترافق بوي في مراحل مختلفة في حياته، ومورغان خلق، من خلال المونتاج والصوت المتقن، تجربةً تبهر جميع الحواس. الفيلم يشبه بوي تماماً، لأن بوي كان ثابتاً وشفافاً داخل أشكال متعددة، ويبقى هنا كشخص صادق بشأن ألغازه، وما يدفع طموحاته الفنية والعلاقة المعقّدة مع والديه.
لم ينتج مورغان فيلماً عن ديفيد بوي. Moonage Daydream لا يتحدث أبداً عن بوي، بل يتيح لبوي التحدث عن نفسه معنا. لا تسلسل نموذجياً في الفيلم، يتمتع الشريط بهيكل سردي بشكل هامشي فقط. على الرغم من أنه يتحرك زمنياً خلال حياة بوي، إلا أنه يسمح لنفسه بقفزات عديدة عبر الزمن ويمزج المواد كلها ليخلق منها شيئاً جديداً كلياً، حتى إنّه تمّت إعادة توزيع أغنيات بوي. شقّ مورغان طريقه عبر أرشيف بوي وأمضى خمس سنوات في غرفة المونتاج ليقدم فيلماً يتجنّب كل عيوب الفيلم الوثائقي الذي يستند إلى سيرة. نادراً ما يمنحنا مورغان الراحة، تخلق تصريحات بوي صورةً لشخص استثنائي، يتمتع بحماس هائل للحياة، جرّب مجموعة متنوعة من الأشكال الفنية، ولم يرغب أبداً في الوقوف ساكناً. عاش مع قلقه لسنوات طويلة، حتى وجد منزلاً مع زوجته إيمان (أحد أجمل مشاهد الفيلم، هو عندما يصف لنا بوي كيف قابل إيمان للمرة الأولى) على بحيرة جنيف في سنواته الأخيرة.

* Moonage Daydream:: س: 18:00مساء 6 أيار (مايو) ـــ «سينما غراند غلاكسي»