يُعتبر نيكولا فيليبير مرجعية لجميع محبي «السينما الواقعية» أو لنكن أكثر دقةً، للسينما المراقبة. من «مدينة اللوفر» (1990)، و«أرض الصم» (1992) و«أقلّ الأشياء» (1996)، إلى «نينيت» (2010)، و«بيت الراديو» (2013)... يمكن أن يُنسب الفضل إلى فيليبير في التوفيق بين عامة الناس والسينما الوثائقية، بينما لا يتخلى عن فنه ولا يقدّم أدنى التنازلات. يجد صانع الأفلام الفرنسي الجمال والنعمة والغموض في مراقبة عالم الحياة اليومية والطبيعية التي تحدث أمامنا. يناقش كيف يمكن استخدام السينما كأداة للتغلب على المخاوف الشخصية والجهل. يقدم نهجاً فريداً للفيلم الوثائقي. فيليبير عادي فوق العادة، يعرف تماماً التمايز والفرق بين الأفلام الوثائقية والصحافة الواقعية. فيلمه الجديد «على قارب الأدامان» الذي عُرض ضمن مهرجان «شاشات الواقع» في بيروت، وحصد «جائزة الدب الذهبي» في «مهرجان برلين» صوّره في خضم جائحة كورونا. شريط يراوح بين الفرد والجماعة والمؤسسات. «الأدامان» سفينة راسية وسط نهر السين في باريس، مأوى نهاري لعشرات من قدامى المحاربين الفرنسيين بشكل عام، يعانون من واقع اجتماعي واقتصادي خانق، وأيضاً من اضطرابات نفسية وعقلية. تُتيح لنا نظرة فيليبير اليقظة والحساسة اكتشاف قصص حياتهم، أفكارهم، أحاسيسهم، قدراتهم الفنية (العديد منهم موسيقيون لامعون). «الأدامان» أيضاً سجل لجيل مهزوم ومدمّر، جيل مثقّفي مايو 68. في القارب هناك مفكرون وهواة أفلام ومغنون ورسامو كاريكاتور يجدون في تلك السفينة الاحتواء (الغذاء النفسي والتدريب) اللازم للحفاظ على أنفسهم والاستمرار، ولو كان ذلك مليئاً بالمطبّات. في «الأدامان» مساحة مهدّدة بسبب الميزانية المنخفضة، ولو أنها في قلب المدينة، فهي غير معروفة للعديد من الباريسيّين، هناك يلتقي المنسيّون كل يوم.خلال دقائق الفيلم التي تزيد عن المئة قليلاً، ما يفعله فيليبير هو تقديم الشخصيات المتنوعة التي تقضي جزءاً كبيراً من أيامها هناك في ممارسة أنشطة اجتماعية وترفيهية وفنية، والتحدث إلى أقرانها والأطباء النفسيين، بينما تحافظ على انشغالاتها ونشاطاتها ومرحها. هنا يذهب فيليبير مباشرة إلى الحقيقة وهذا ما يهمه، تقترب كاميرته من الناس من دون إجراء مقابلات بطريقة كلاسيكية، فهو كمراقب يمشي على الحائط ويطير في المكان، ويسمح لنا بالاستماع إلى القصص والرغبات ومشكلات الموجودين. فيليبير يلتزم دوماً بالهدوء والسماح للأشخاص بالتعبير عن أنفسهم بالطريقة والوقت الذي يمكنهم فيه التوقّف بمفردهم، وليس من خلال القطع. البعض (الغالبية) يفعلون ذلك بطريقة مطولة والبعض الآخر يختار الصمت والموسيقى والرسم أو حتى التعبير الجسدي. الشخصيات مثيرة للاهتمام، ساحرة، لديها مشكلاتها (مثل أي شخص آخر) والكاميرا تهتم بها، بالإضافة إلى الاهتمام الواضح بالقيمين على هذا البرنامج. مع ذلك، فإن حدود الصحة النفسية غير واضحة وفي تفاعل أولئك الذين نراهم على الشاشة، غالباً ما يكون صعباً تمييز من يقف على جانبَي هذا الحد، وما هو الحد الفاصل المفترض. الفيلم الذي تدور أحداثه بالكامل على متن القارب، يغرق في هذا العالم من دون تمييز بين المرضى ومقدمي الرعاية.
يعكس الوثائقي أفكار وحياة الأشخاص الضعفاء بوضوح مدهش

إنها مساحة احتواء، مكان يُفهم فيه أنه «لا يمكن إنقاذ أحد بمفرده» وأن الناس يحتاجون إلى الآخرين من أجل البقاء.
يخلق نيكولا فيليبير صورة جماعية لأولئك الذين يدخلون المؤسسة. في ظل الحضور المقيد للكاميرا الخاصة به، يعكس الوثائقي أفكار وحياة الأشخاص الضعفاء بوضوح مدهش، بمساعدة ممرضات المؤسسة والتعبير الفني عن الذات بشكل مستقل عن الوسيلة. في الوقت نفسه، فإن المواقف واللقاءات هنا ليست كلاسيكية، ولا أسئلة يجب الإجابة عليها، والموضوعات تفتح مثل المونولوج في نشوة الانتباه الموجه إلى الشخوص. مع ذلك، يقدم الفيلم القليل من المعلومات السياقية. على سبيل المثال، نتعرف إلى عمل المؤسسة من مواقف مختلفة. مثلاً الشخصية التي قابلناها في بداية الفيلم تختفي تماماً، ثم تعود إلى الظهور بعد اكتشاف قصص جديدة، فنشعر أن السرد مبني بشكل عضوي، في مكان يتسم بالحرية. هناك مدخل ومخرج، والفيلم يعمل مثل المبدأ التنظيمي للمؤسسة ويصف حياتها وعملها. فيليبير نادراً ما يقلق بشأن بنية أفلامه، وفي «على قارب الأدامان» كان مقتنعاً بأن المكان والشخصيات ستسمح له ببناء فيلم يشبه المكان.
على الرغم من أن الفيلم يجسد القدرات التي يمكن إطلاقها بالمساعدة والاهتمام والعطف، إلا أنه يتجنب بمهارة مخاطر استدرار الشفقة. تعتمد المشاركة على الحوار المتبادل، ولا يوجد فرق بصري بين المرضى ومقدمي الرعاية. لا يقدم فيليبير أشخاصه على أنهم غرباء، لكن كأشخاص لديهم مشكلاتهم، يوجد لديهم إدراك متزايد بالواقع الذي يعيشونه، فيلجؤون إلى قارب تحدّه المياه من جميع جوانبه، ويطفو في وسط باريس لكنه مستقل عن نبض المدينة، إنه فقاعتهم المغلقة التي يجدون أنفسهم فيها.