عصاميٌّ غازي بكر (بيروت ـــ 1967) في الفنّ التشكيلي. فضلاً عن كونه مهندساً معماريّاً ومديراً لمؤسسته الخاصة، احترف بكر الرسم بالاشتغال على ذاته والاطلاع الواسع والسفر والهوايات المتنوّعة كالتصوير الفوتوغرافيّ وركوب الدرّاجات. الفنان ذو الأصول الإيرانية والأرمنية، نشأ في أجواء الحرب الأهلية اللبنانية وأمضى قسطاً من شبابه في أوروبا حيث تفتّح وعيه على الفنون والفكر والثقافة بأوسع نطاق. «غاليري مارك هاشم» في بيروت تحتضن حالياً لوحات (تحت عنوان «محادثات») بكر التي تحيلنا للتوّ على توجّهه السورياليّ لمرحلة ما بعد البنيويّة، متأثراً بفنّ الكوميكس والموسيقى والأفلام والدراجات النارية، والمشاهد من الحياة اليومية، بحيث تغدو سورياليته مفترقة عن سوريالية دالي وآخرين. إذ لا قتامة فيها ولا تضخيم، بل دعابة ومرح وتناقضات إنسانيّة تجد مصادرها في فلسفات دريدا، وفوكو، وميرلو بونتي وأفكارهم. أمّا تشكيلياً فهو قريب من عوالم فرانسيس بيكن وديفيد سال. الألوان لديه مرحة تستمدّ عناصرها ومفرداتها من الواقع لتحوّله إلى غير واقعيّ. ألوان وأشكال متنافرة تبعث ارتياحاً وبسمةً في الناظر إليها، كأنّها متأثرة كذلك بالرسوم المتحرّكة من فرط حيويّتها وانشراحها. لا تبدو لوحاته ذات عمق وخلفيّات كبرى، بل تطفو تشكيلاته على سطح اللوحة، من دون غموض يتبدّى مثلاً في الموناليزا.ماهرٌ غازي بكر تقنيّاً، مسيطر على مادّته وأداة تعبيره التي تميل إلى السوريالية اللعوبة. في لوحاته كائنات غريبة ووجوه متداخلة كأنّما للإيحاء بأنّ الإنسان أضحى كائناً مركّباً ومخلوقاً جديداً. حتى إنّ هذه الوجوه الغريبة تمتزج بالأشياء وتمتزج في ما يشبه الحلم. امتزاجها غير منطقي، غير كلاسيكيّ، لبلوغ نقطة توازن غير المتوازن. الفكر ماثل في الخلفية البعيدة وتأويلاتها، إلّا أنّه يبدو هنا كأنّه يمارس الفن للفن، للتشكيل والفرح والمرح، لا لتبنّي الأفكار والمواقف الصارمة والعابسة. وربما لهذه الفرادة في منحى بكر السوريالي الخاص، أمست أعماله مرغوبة كثيراً لدى جامعي اللوحات المميزة، في مختلف أنحاء أوروبا، وتبرز في هذا الصدد الدعوة التي تلقّاها من «متحف ريجكس» في أمستردام لعرض أعماله في قاعة الشرف.
ألوان وأشكال متنافرة تبعث ارتياحاً وبسمةً في الناظر إليها


ليس أمراً عاديّاً أن يتمكّن فنّان غير متخصّص في المجال التشكيليّ، بل آتٍ من ميدان قريب هو الهندسة المعماريّة المنطوية على قدر من الخلق الفنّي، أن يفرد لنفسه مساحة غير قليلة في عالم اللوحة ويحوز شهرة عربية وأوروبية، تستقبل المتاحف والغاليريات أعماله إلى حدّ التهافت عليها. تتكشّف أعمال غازي بكر التي نتأمّلها اليوم بمتعة وبهجة عن موهبة فطريّة ومثقفة في آن، وعن فرادة أسلوب تبعده عن النسخ والتقليد، وفي ذلك نجاح مستحقّ لفنّان تعاكس دُعابته عبوس واقعنا الراهن.

* «محادثات» لغازي بكر: حتى 20 أيار ــ «غاليري مارك هاشم» (مينا الحصن ــ بيروت) ــ للاستعلام: 70/949029