في مطلع التسعينيات، كان الراحل عبد اللطيف البرغوثي، أستاذنا في الأدب واللغة، من القلائل من أبناء الحركة الوطنية في الأكاديميا الفلسطينية الذين لم يرق لهم انتقال «ملفَّي» الثقافة والتعليم من منظمة التحرير الفلسطينية إلى السلطة الفلسطينية. كان رائياً تملؤه المرارة من تبعات غرق المنظمة في السلطة وما سيليه من واقع كابوسي، نشهد أحلك فصوله الآن، على مستوى الجماعة الوطنية. وقد أورثه ذلك عداوة كبار الأكاديميين الذين عادوا إلى الوطن للتقاعد بعدما أدّوا دوراً لا يستحق المديح في تسويق التسوية والمشاركة فيها. ولكنه لم يكفّ عن الإشادة بالمشاريع الفردية برسم المجموع، وبخاصة إن كانت خارج زبد هذا الغرق الشامل، لا خارجة منه. كان مشروع سلمى الخضراء الجيوسي للترجمة من اللغة العربية «بروتا» (The Project of Translation from Arabic-PROTA) موضوع افتتان له ولنا. فهو مشروع طموح، تخلَّق في كنف واحدة من أعرق الجامعات الأميركية (جامعة كولومبيا في نيويورك)، ونتج منه خلال عقد ونصف العقد من الزمن ما يشي بعدم الوقوع في مصيدة سياسات الترجمة في المراكز الاستعمارية لثقافة الهوامش المستعمَريّة في الجنوب العالمي، وبخاصة الإفلات من مرض سدانة بوابة الترجمة التي يخيَّل لمن يمتلك أحد مفاتيحها، عادةً، بأنه صار نمروداً ثقافياً «يحيي» من يختاره و«يميت» من يستثنيه.


انتقل افتتان أستاذنا لنا، وصرنا نتتبع أعمال سلمى، ونصدّق مفاتيحها، حتى لا نخلط الزوان بالحنطة. كنت سعيداً باقتناء ما أمكن من أعمالها، لكنني اعتبرت موسوعتها «أنطولوجيا الأدب الفلسطيني المعاصر (1992) بالإنكليزية كنزاً فريداً. أما اكتشاف أنه صدر بالعربية بعنوان «موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر» (1997)، فقد كان في سياق خاص يغوي بالمقارنة ويتحرَّز منها. لقد كان عام 1998، عام إحياء الذكرى الخمسين للنكبة فلسطينياً وعربياً، لكنه كان كذلك عام احتفال المستوطنين بالذكرى الخمسين لـ «استقلال» دولتهم. شهد ذلك العام فعاليات ثقافية وأكاديمية غير مسبوقة، ارتجل الفلسطينيون معظمها «ع المطرح» فيما القليل منها «قول من تحته عمل».
حينها، قرأت إعلاناً عن معرض كتاب عالمي ينظمه الصهاينة في «مباني الأمة» في القدس [الغربية] المحتلة. هناك أذهلني مشروع معرض فني حول الأدب العبري أقيم في المعرض، وكتبت عنه في أكثر من مناسبة. فعلى مدار عام كامل عمل حنان حيفر، أستاذ الأدب في الجامعة العبرية (الذي يعتبر بمقاييس البعض «متضامناً مع الفلسطينيين»)، على تحقيق حلم زئيف بيرجر (مدير المعرض) وتفسيره عبر تشكيل حداثي لهوية الأدب «الإسرائيلي» من خلال عملية إدماج قسرية لشتات النتاج الثقافي «الإسرائيلي» الأرابيسكي. وقد خرج حيفر ببانوراما نقدية متوترة حررتها حموتال تسير وصممها عدي شتيرن لدار «يديعوت أحرونوت» التي تمكنت من نشر كتاب بعنوان: «أدب يُكتب من هنا» في اليوم الثاني (21 حزيران 1999) من المعرض الذي صممه مولي بن ساسون وأوري ريشف وأنتجه أوري بلوتشر.
كتاب «أدب يكتب من هنا» هو بانوراما الأدب «الإسرائيلي» الذي لم يتفق النقاد، «الإسرائيليون» وغير «الإسرائيليين»، على تعريف له بعد. وقد عرض هذا الأدب في رحلة مدتها خمس وعشرون دقيقة بالفيديو والمشاهدة الحية في مسارات المعرض. «خمسون عاماً من الأدب الإسرائيلي» حاوَلَت توليف ما لا يأتلف لتغيير هوية الأدب «الإسرائيلي» بحسب قاعدة الناقد أبراهام تريب «الدولة ككيان سياسي تمنح الهوية لكتَّابها، غير إن الكتَّاب «الإسرائيليين» هم الذين سيمنحون الدولة هويتها»... هذه المقولة التي أراد حيفر فحصها في مغامرته، إذ لن تكتمل شذرة «الأدب الإسرائيلي» إلا بتعريف جديد «لهوية الإسرائيليين». لقد أراد القول إنّ «الأدب الإسرائيلي» أدب أداتي ساهم في بناء الهوية القومية «الإسرائيلية»، أي إنه تواصل حداثي للفكرة الصهيونية، ناهيك بمواجهة موجة يهودية الدولة التي أودت اليوم، بعد أكثر من ربع قرن على صدور الكتاب، بـ «إسرائيلية» الأدب لصالح يهوديته.
في المعرض نفسه، شاركت دار نشر عربية وحيدة، «مكتبة الجليل» من شمال فلسطين المحتلة، عثرت لديها على الطبعة العربية من «موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر» الصادرة قبل عام واحد عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» في بيروت. كانت المفارقة فادحة بين «أدب هناك» الصهيوني الذي رصدت له كل هذه الإمكانات من الدولة ومؤسساتها ليصير «أدب هنا»، و«أدب هنا» الفلسطيني الذي لم يرصد له إلا جهد سلمى الخضراء الجيوسي ليصير «أدب هنا» القادم «من هناك». بالتأكيد سيكون من العبث المقارنة بين العملين على مستوى حضور أزمة الهوية أو غيابها، لكن المقارنة على مستوى الشكل واجبة: بين فكرة صهيونية حققت وجودها، ووجود فلسطيني عجز عن تحقيق فكرته (مع الاعتذار لإدوارد سعيد على ليِّ مقولته الشهيرة في «القضية الفلسطينية»). خلال دراساتي العليا وما تلاها من انخراط في الحقل الثقافي الفلسطيني، حاولت تشكيل معرفة تمكّنني لا من فهم هذه المفارقة، بل من تفسير استمرارها. وخلال دراساتي العليا، كذلك، تخصصت في حسين البرغوثي، وتعرفت على أندريه ريمون وليوناردو شيرالي.
في فترة متأخرة، بعد عام 2006، كانت لي فرصة لقاء سلمى الخضراء الجيوسي شخصياً لمرات معدودة، في رام الله وعمان، عبر ابنتها الصديقة مي جيوسي وعبر «بيت الشعر الفلسطيني»، الذي صار أثراً بعد عين. كانت في صدد إصدار موسوعة جديدة للأدب الفلسطيني، وطلبت نصوصاً عديدة من «الجيل الجديد»، لكنها كانت مأخوذة بـ «الضوء الأزرق» لحسين البرغوثي (الذي كنت ترجمته للإنكليزية خلال دراستي للدكتوراه)، وألحَّت على نشر الجزء الأول منه في الأنطولوجيا الجديدة، التي لا زلت أجهل مصيرها. لكن ما لفتني أكثر أنها ذكرت، ومن ضمن مشاريعها التي تبدو بلا نهاية، كتاباً حول «صقلية العربية»، وأنها تشعر بتأنيب ضمير لا ينقطع لتأخر هذا الكتاب عن الصدور بسبب عدم إيجادها مصادر حول الفصل المتعلّق بالموسيقى والغناء. وصلتها، في حينه، بالصديق الصقلي المولود في بروكلين، ليوناردو شيرالي، والذي ألف كتاباً هاماً في الموضوع، والذي أوصلها بزميل آخر متخصص في الموسيقى الصقلية. أذهلتني في حينه سعادتها البالغة بالكشف المعرفي الذي حظيت به مما تلقته من مواد غطت نواقص بحثها الفريد الذي أعتقد أنه صار موسوعة «المسلمون في صقلية» في عام 2015.
لا أحسن الكتابة عن الراحلين، ولكن ما يجدر قوله إن سلمى الخضراء الجيوسي لم تمكث هنا، في فلسطين، كثيراً، غير أنها كتبت الكثير، وترجمت الكثير، عن الأدب المكتوب من هناك عن هنا، ومن هنا عن هنا. ولا يزال مشروعها الفردي قائماً برسم المجموع. لا تحتاج سلمى الخضراء الجيوسي منا الآن شيئاً. لا تحتاج باسمها: لا جائزة تكرِّس العدم، ولا شارعاً باتجاه واحد تفشل البلدية في تنظيم افتتاحه، ولا فعالية فرجوية يلوثها الرسميّون باللغو، ولا بيان استذكار تقتلنا بلاغته في ذكرى رحيلها، وبالتأكيد لا تحتاج مؤسسة أخرى لتكريس الفرجة في مقبرة ثقافتنا السعيدة. ولكننا نحتاج منها الكثير الذي وهبته قبل رحيلها... نحتاجه، ونحتاج وقتاً لقراءته، وإتمام ما لم ينجز منه بصمت، تماماً كما فعلت، ورحلت.

* شاعر وناقد من القدس