«العربجي» نجماً على ذمّة الجمهورالجمهور هذا الموسم قال كلمته بدون مواربة في ما يخصّ أفضل الأعمال. ورغم المآخذ النقدية الواضحة في ما يخصّ منطق تعاطيه مع المرأة ومجافاته لأي سلوك تنويري، لكنّ الكفة الشعبية رجحت باتجاهه والحديث هنا عن المسلسل الشامي «العربجي» (كتابة عثمان جحى ومؤيد النابلسي ــ إخراج سيف الدين السبيعي ــ بطولة: باسم ياخور، سلوم حداد، نادين خوري، فارس ياغي، طارق مرعشلي، محمد قنوع، ديمة قندلفت، روعة ياسين، تسنيم الباشا، ميلاد يوسف وعبد الرحمن قويدر ـــــ إنتاج «غولدن لاين») العمل الذي صار قاب قوسين من بدء التحضير لموسم ثان له، سبق أن قلنا بأنه ربما يحتمل الوجهين!


بمعنى أنه يحتمل رأياً وعكسه في الوقت نفسه، لكن من وجهة نظر الجمهور، فالعمل في مراتب متقدمة بشكل أكيد، إذ تمكّن بقدرة صريحة من إجادة وصفة رمضانية محبّبة، تدعو للمشاهدة من خلال حكاية «عبدو العربجي» (يؤدي الشخصية النجم باسم ياخور) الذي تعرّض لجور وظلم أهل حارته، فقرر أن ينتقم لنفسه وكشّر عن أنيابه وراح يردّ الصاع صاعين. إذاً، هي ببساطة قصة الظالم والمظلوم، والرغبة الجماهيرية المرافقة لهذه الفرضية بأن ينتصر المظلوم ويسترد حقّه، ويبرّد قلوب الناس ربما على حقوقهم المهدورة التي لا يمكنهم واقعياً استعادتها، فيصيرون بحاجة إلى بطل يعلّقون عليه أمنياتهم! العمل نجح لأنه صُنع على مقاس شهر رمضان، ووفقاً لمعطيات مُشاهده، الذي يميل نحو الحكاية المشوّقة لكن السهلة التي تحمل دفعات متعاقبة وذروات متلاحقة!

«النار بالنار» نال شرف التجربة
تعرّض مسلسل «النار بالنار» (كتابة رامي كوسا وإخراج محمد عبد العزيز ــ بطولة: عابد فهد وكاريس بشار وطارق تميم وجورج خباز وزينة مكي وساشا دحدوح وهدى الشعراوي ـــ إنتاج «الصبّاح») لمجزرة حقيقية على مستوى التعديلات. أمر جعل الكاتب يخرج صراحة معترضاً على الشكل النهائي للعمل، معتبراً أن أكثر من 60% مما ظهر على الشاشة، ليس له علاقة به. نقطة الخلاف ظهرت على شارة العمل بمرور اسم ورشة افتراضية لا يُفصح عن أسمائها، كأننا أمام ورشة تهريب أو تجّار آثار.


العمل بجزء منه مجحف بحق السوريين، فهو لا يعكس مرحلة النزوح الحرجة المسيّجة بالوجع والعوز، كونه يقترح مجموعة نماذج سورية غارقة في الانحدار، ويقع في مطب التناقض الصريح لسلوك الشخصيات مع بنائها، إضافة إلى غياب المبرّرات الكافية للكثير من الأفعال والأحداث غير المنطقية، وخصوصاً قصة الحب التي تجمع اللبناني العنصري المتعصّب الحاقد على السوريين مع سيدة لاجئة بسيطة كانت تعيش في حي الشيخ محيي الدين ولا يمكن لها الانسجام مع منطق حياة هذا اللبناني! مع كلّ ذلك، قدّم المسلسل مادة بصرية تحكي عن أكثر المواضيع المعاصرة حساسيةً وهي العنصرية المتبادلة بين اللبنانيين والسوريين، والمعارك الباردة والحامية بينهما على خلفية تاريخ مربك بين البلدين الجارين. جرّب المسلسل اقتحام المحظور ولو كانت التجربة مفكّكة في مطارح عديدة وقعت في هنّات لا تُغتفر. لكن يمكن القول بأن التجربة بحد ذاتها استحقّت الإشادة.

«الزند» مكتمل العناصر
الشكل والصورة والديكور ومواقع التصوير والألوان والشارات والأداء التمثيلي وقبل كلّ ذلك القصّة، كل ذلك جعله ضربة الموسم ومسلسل المهرجان التلفزيوني، وصاحب الصدارة من دون منافسة. الحديث هنا عن «الزند... ذئب العاصي» (كتابة عمر أبو سعدة وإخراج سامر البرقاوي بطولة: تيم حسن وأنس طيارة وجابر جوخدار ورهام القصار ودانا مارديني وتيسير إدريس وفايز قزق ومجد فضّة ومازن عبّاس ونانسي خوري ــ إنتاج «الصبّاح»).


الشغل بدأ من الكلمات المفتاحية للعمل، وبذكاء تمكّنت الشارات بعد بحث استقصائي، من محاكاة وجدان الناس ودغدغة ذاكرتهم، عندما أعادت إحياء عتابا معروفة لأهالي المناطق المنتشرة على ضفاف نهر العاصي أي المسرح الجغرافي للحدث. تلا ذلك استقدام المرحلة التاريخية بشكل محكم، يوازيها بحث يتحقق على مستوى الملابس، لينسجم مع بناء درامي على مستوى القصة والحوار والأداء التمثيلي البارع. الحكاية ربما تقدّم بطلاً واحداً هو عاصي الزند الذي يُقتل أبوه على يد رجال الباشا في ليل حالك، فينتقم ويفقأ عين قاتل والده ويهرب ليخدم في العسكر السلطاني. وعندما يعود، يكون وريث الباشا الشاب الوسيم نورس باشا قد أحكم السيطرة على أرض الرجل وكل المنطقة. ولدى محاولته المطالبة بحقه، يوضع في مكان يضطر فيه للهرب مع شقيقته وأولادها، قبل أن يتحول مع شباب قرية متمرّدة لإدارة حركة ثورية في وجه الظلم، سرعان ما تتحوّل إلى استرزاق وبلطجة وقطع طرق. كان الملمح المتوهّج في العمل هو التنافس على جودة الأداء بين مجموعة ممثلين بارعين!

معاناة منى زكي مع القانون المصري
ينطلق مُسلسل «تحت الوصاية» (إخراج محمد شاكر خضير ــ تأليف خالد وشيرين دياب) من إشكاليّة اجتماعيّة، ويتحرّك في مساحات دراميّة ترتبط بالمنظومة التشريعيّة للقوانين المصريّة في ما يتعلّق بوصاية الأم على أبنائها، لكنه يرفع سقف الطموح الدرامي من حيث الشكل والمضمون. فالسيناريو ليس مُباشراً رغم خطابه المفهوم بداية من اسم المُسلسل الذي يحمل إشارة إلى الداخل، حيث المضمون الجوهري والمحور الأساسي للنزاع. غير أن الأخوين دياب لا يميلان إلى تسطيح القضية بحيث تكون مُباشرة، بل يدفنانها فوق طبقات من الصراعات الاجتماعيّة التي تتجسّد في أصالة البيئة ذاتها وعُمق تأثيرها؛ بحيث يُمكن تأسيس خطوط فرعيّة استناداً إلى فكرة استكشاف المكان كقيمة مُجرّدة.


فالشكل ذاته يمنح الدراما عُمقاً من خلال وجوده ككيان مُلتبس وجديد يستوجب استقصاء يقوم به البطل نيابة عن المُشاهد، بيئة دُمياط البعيدة عن مركزيّة القاهرة، وفرادة الحرفة التي يرتكن إليها المُسلسل تجعل الإشكاليات الثانوية أو العُقد الهامشية على الخط الأساسي. مُعضلات جديرة بالانخراط الكُلي، وصعوبات مثيرة للاهتمام مهما كانت بعيدة عن الخط الرئيسي الذي يتعلّق بالوصاية. إلى جانب ذلك، فاللُّغة البصرية لبيشوي روزفلت والإخراج المميّز لمحمد شاكر خُضير، نجحا في تطويع الدراما داخل أجناس فنيّة مُختلفة على المستوى النوعي. هُناك حلقات كاملة تقوم على مُطاردات. الاندماج الدرامي للأجناس النوعية رفع من قيمة الدراما وسرّع من إيقاعها، وخلق ديناميكية بين بداية كُل حلقة ونهايتها. فالحلقة الدراميّة كمُنتج إبداعي هي عُقدة مُنفصلة تنمو على جسد المشكلة الأساسيّة، تتبدّى كرحلة دراميّة، فأغلب الحلقات تعرِض لرحلة سواء بالمركب (السّرحة) أو السفر من دمياط إلى الإسكندرية في مُطاردة، أو أي نوع من الحركة يتماس مع أداء مُهمّة ضرورية. والحقيقة أن اللغة البصرية لبيشوي وخضير ارتقت بالمرويّة إلى مستوى سينمائي. مستوى يتعاطى مع المُشاهد بمنهجية حكائية بعيدة عن التلقين والخطابية باستثناء الحلقة الأخيرة.
يُحسب للمسلسل ابتعاده عن مركزيّة القاهرة ونمطيتها، واتجاهه إلى الهوامش بمنظور مُختلف ليوفّر مناخاً أكثر تنوعاً، بالإضافة إلى الدقّة الشديدة في تسكين الأدوار، بدءاً من البطلة منى زكي، مروراً برشدي الشامي ودياب وعلي صبحي وحتى الأداء الفائق للطفل عمر شريف، إلى جانب اختيار نهاية أكثر منطقية وأكثر اتّساقاً مع طبيعة وقسوة العمل الفني. وبالطبع لا نستطيع إغفال المجهود الرائع لمؤلّفة الموسيقى ليال وطفة ومصمّمة الأزياء ريم العدل.

أحمد أمين عاد إلى ملعبه المُحبّب
عاد أحمد أمين هذا الموسم إلى الكوميديا مرة أخرى، منطقته المُحبّبة ومساحته المعهودة في مُسلسل «الصفارة» (إخراج علاء اسماعيل ـ أشرف على التأليف أحمد أمين ومحمود عزت) الذي أخذ فكرة شديد البساطة وتقليدية وحوّلها إلى عالم مستقل ومساحة شديدة اللطف والكوميديا. اعتمد في تكوين مسلسل «الصفارة» على فكرة العالم الموازية التقليدية، وأضاف إليه شيئاً ثانوياً حرّك الحكاية؛ وهو الرجوع ثلاث دقائق فقط بالزمن، عند موقف مُعيّن مُحدد مسبقاً لتغيير المُستقبل.


ولكُل فعل مُختلف مستقبل مُختلف وعالم متباين. الجدير بالذكر أن المُسلسل لم يهتم بالتجديد على مستوى الفكرة بقدر ما اهتم بتقديم الفكرة في صيغة حكائية تنزع إلى الكوميديا، وتعتمد في ضحكها على التعارض بين كُل شخصية وأخرى. التناقض بين شخصيّة شفيق الحقيقية وشخصيّته الجديدة، أشبه بنزاع بين «الهو» و«الأنا»، إلى جانب افتقاده للذاكرة المُستحدثة للشخصيات الناشئة، واعتماده على الذكريات الأصليّة لشخصية شفيق الأساسية، حتى تتسرب له ذاكرة الشخصيات تدريجاً، أي أنه يبني ذاكرة موقّتة مثل شخصياته الموقّتة. وعلى الرغم من الخطابية الفجّة والمباشرة في الحلقة الأخيرة، فالمسلسل نجح في تمصير الفكرة ودمجها مع المجتمع والثقافة المصريين بشخصيات أصلية لها لزمات كوميدية مضحكة ترتبط بوجودها في العالم الجديد، إلى جانب أداء أحمد أمين المميز وأخيه في المسلسل طه دسوقي، ليُضيفا الكثير من الطرافة بعلاقتهما، وينجحا في إعادة تقديم الفكرة بشكل بسيط يتناسب مع المُشاهد وذكي في الوقت نفسه، فالبطل المهووس بتغيير مصيره يُجرّب بإلحاح كُل الخيارات، كُل الحيوات المؤجلة، وكُل الطُّرق غير المعهودة، ولكنه يصل إلى النقطة نفسها في النهاية، نُقطة الصفر.

العلاقة الزوجية تدخل «الهرشة السابعة»
ينطلق مسلسل «الهرشة السابعة» (تأليف مريم نعوم ـــ إخراج كريم الشناوي) من مساحة آمنة، منطقة رفاه مادي، ويتحرك داخل حيّز لا ينشغل بالأزمات الماديّة إلا في مستوى مُعيّن من الخطر. مستوى يتوافق مع الطبقة الاجتماعيّة المرصودة داخل العمل الدرامي، ويتحرى الإشكاليات الاجتماعية وأزمات العلاقة الزوجيّة داخل ذلك النمط الشكلاني، بحيث تنعكس طبيعة البيئة على شكل الأزمة وكيفية التعاطي معها، بيد أنه خلق شبكة من العلاقات الداخليّة المُعقّدة، ليس على المستوى الخارجي، إنما الداخلي.


فالمُخرِج المصري كريم الشناوي يدفع أبطاله ببطء نحو الهاوية، مُستنداً إلى فرضيّة الهرشة السابعة، التي تتعلّق بأزمة الأزواج خلال السنة السابعة من زواجهم، حيث تتغير طباع وشخصيّة كُل فرد ويبدآن بالتصادم. نجح المُخرِج في خلق المزاج اللوني والمناخ العام المُناسب للحكاية، فالقصّة ذاتها لا تعتمد على الحركة بقدر ما تصبو إلى خلق ذروات ثانويّة في كُل حلقة تسهم في بناء لحظة الانفجار الكبرى. والحقيقة أنّ فريق الكتابة ومدير التصوير وكلّ طاقم العمل نجحوا في تأسيس دراما حقيقية عابرة للطبقة الاجتماعية في بعض الأحيان. فالأزمات الداخلية للأزواج هي نفسها في كلّ طبقة، لكنّ الهموم التي تطوّقها تتغير مع الهبوط أو الصعود في الطبقة الاجتماعية. وهذه الخواص المتعلقة بالبيئة تؤثّر في رد الفعل ذاته على أكثر من مستوى. بيد أنه على مستوى الحكي والإيقاع والمناخ العام، ناجح بنسبة كبيرة ومتجاوز لأغلب منافسيه في رمضان، لكنه يشتبك مع شريحة مُعيّنة في الأساس، ولكن هذا لا يُضعف الدراما على الإطلاق، فالشناوي منح مُنتجه الديناميكية المطلوبة لخلق الشد والجذب، وتوريط المُشاهد في أكثر من حكاية، ليصنع أحد أفضل مُسلسلات الدراما الزوجية منذ سنوات.