أثار تجسيد ممثلة سوداء لشخصية الملكة كليوباترا في وثائقي مرتقب على نتفليكس (بدءاً من العاشر من أيار/ مايو) جدلاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي في مصر. انتقد كثيرون تصوير الملكة كليوباترا ببشرة داكنة مع أنّها من أصول مقدونية. أعاد الفيلم النقاش حول أفكار حركة «الأفروسنتريزم»، التي تنشر فكرة أن جميع حضارات العالم كانت تضم ذوي البشرة السوداء قبل تشتّتهم. كما اتهم مغردون منصة نتفليكس «بتغيير تاريخ مصر القديم» و«تزوير المعطيات التاريخية الثابتة».في ضوء إعلان شركة نتفليكس أنّ فيلم «الملكة كليوباترا» يندرج ضمن سلسلة وثائقيات لاستكشاف حياة الملكات الأفريقيات البارزات والمبدعات إذاً، يجب أن يكون هُناك معطى معرفي لفهم أبعاد الخطاب التاريخي الذي اعتمدوه لصناعة هذا الوثائقي التاريخي. وعلى هذا الأساس يجب أن نفرّق بين الذاكرة والتاريخ، وأوجه العلاقة الملتبسة بينهما. فماذا نعني بالذاكرة؟ وماذا نعني بالتاريخ؟
لعل التعريف الأقرب والمساعد في فهم المقصد من هذا التفريق هو ما كتبه المؤرخ الفرنسي، جاك لوغوف، عندما عرّف هذا الإشكال الثنائي بين الذاكرة والتاريخ، ووصف الحالة المعرفية لكلّ منهما بما يلي: «تبدو الذاكرة الجماعية أسطورية بشكل أساسي، مشوّهة، تخلط الأزمنة، لكنها حالة العلاقة التي لا تنتهي بين الماضي والحاضر. ومهما يكن، فإنه من المرغوب فيه أن يقوم السرد التاريخي الذي ينتجه المؤرخون المحترفون، بتصحيح التاريخ التقليدي المغلوط. فالتاريخ يضيء الذاكرة، ويساعدها في تصحيح أخطائها».
إذاً، تغلب السمات التالية على خطاب الذاكرة الجماعية، سواء جاءت تعبيراتها شفوية، أو نصوصاً متواترةً ومتناقلة بالإسناد: الأسطرة، وخلط الأزمنة، بل استحكام المخيال فيه واستدخال انفعالات وعواطف هي من إنتاج الحاضر، ورغبة في إحياء الماضي بطريقة مُرضية. أما التاريخ، والمقصود هنا علم التاريخ، فهو البحث الهادف إلى معرفة وضعية للظروف والعوامل والسياقات المساعدة في فهم الذاكرة وصورها وطريقة اشتغالها لموضعتها في مكانها وزمانها، وعقلنتها.
ما يعني أنّ إعادة قراءة تاريخية لشخصية مثل كليوباترا اعتماداً على الذاكرة، يجعلها تحمل وجهاً من الأسطورة، كما تحمل وجهاً يخلط الزمن التاريخي، أي الحاضر. وما يصنع الوجه الأخير هو الأدلجة، أي الاستخدام الأيديولوجي - الوظائفي لواقع راهن تبرز فيه الأجندات الاجتماعية التي تضم حركات مثل: «الأفروسنتريزم». في ضوء مدرسة الحوليات الفرنسية التاريخية، يصبح وثائقي نتفيلكس عن كليوباترا مجرد فيلم خيال، ذاكرة بمعنى أدق، ولا يستحق الاستهجان عموماً أو المطالبة بوقفه، وللمُشاهد كُل الحق في التعاطي معه كأي فيلم للتسلية أو تجاهله.

سياسات التهميش في دولة ما بعد الاستعمار
إنّ سياسات التهميش الحالية في مصر هي النواقل التاريخية الحالية لما يُعرف بـ«الحطام الإمبراطوري» التي أنتجها الشكل غير التقليدي لدولة ما بعد الاستعمار في الوطن العربي والتي تختلف في طرق مهمة (على الأقل بشكل استطرادي) عن العملية المعيارية للتحرر السياسي من الحكم الأجنبي. في عام 1954 تم الجلاء البريطاني عن البلاد، واستبداله بعلاقات ثنائية، ثم تلاه (1956) انفصال دولة السودان عن مصر، لتبدأ حقبة جديدة من التاريخ المصري. وبالاعتماد على نظريات السياسة الأوتوقراطية التي تنصّ على أن جنون العظمة ليس مجرد «حالة ذهنية فردية، بل هو أيضاً شرط للمجتمعات والسياسات الحديثة»، نفهم كيف بدأت الحكومة المصرية في صياغة مفاهيم التماسك الوطني والقدرة على البقاء وكيف يمكن للأمة معالجة هذه المخاطر «الخارجية». لذلك، فيلم كليوباترا السوداء هو نموذج مُهدد يتناقض مع أساليب دولاتيّة إقصائية في محاولة لبناء نظام حكم أصلي ومتآلف. كما هو الحال في الدول القومية الأخرى، يسعى النظام السياسي الرسمي إلى استيعاب «تاريخ الدولة في تاريخ الأمة». ووفقاً لنظرية يوهان غوتليب فيشته مؤسس المثالية في أواخر القرن الثامن عشر، فإنّ Urvolk _أي «الشعب البدائي» أو «السكان الأصليون»_ هو النموذج الأصلي للأمة، ومن خلال هذا التفصيل، بدأت جهود الدولة القومية المصرية للعودة إلى أصل نقي مُتخيّل يُقصي أجزاءه الأفريقية.
منذ الاستقلال، شهدت مصر تحولات سريعة من المجتمع الريفي إلى الدولة القومية الحديثة. أثارت هذه التحولات مخاوف حكومية تتعلق بالأصالة والوراثة والذاكرة الاجتماعية. من خلال الإعلانات الحكومية الرسمية وحسابات وسائل الإعلام الوطنية، نفّذت الحكومة مشروعاً لدولة أحادية الإثنية وحيدة الثقافة، ما يُعتبر مناورةً تاريخية لبناء دولة ما بعد عام 1952. في هذا الصدد، لاحظ علم الاجتماع السياسي أن إنشاء ذاكرة تاريخية زائفة غالباً ما يكون مظهراً من مظاهر البارانويا الاجتماعية. الإقصاء وجنون العظمة هما الاستراتيجية الأكثر فاعلية للهوية الوطنية، حيث يتم التأكيد على تخيّل لشكل المصري المحصور في سكان ساحل البحر المتوسط في مواقع الإنتاج الثقافي مع استبعاد العناصر العرقية والثقافية والدينية الأخرى. علماً أنّ إحدى أهم المساعدات العسكرية المقدمة في تاريخ مصر، كانت تشفير إرسالها العسكري في حرب 1973 ضد إسرائيل باستخدام لغة أهل النوبة المصريين سود البشرة وذوي اللغة غير العربية.
اتّهم مغرّدون نتفليكس بـ «تزوير المعطيات التاريخية الثابتة»


إذاً لماذا يوجد رفض مصري لكليوباترا سوداء؟ أولاً، لأنّ السيادة التي نشأت في الدولة القومية المصرية كانت تستهدف مصرياً أحادي الشكل، وهذا أسهم نسبياً في جعل مصر دولة بمعايير ماكس فيبر، لكنها تظل شكلاً غريباً من أشكال الدولة القومية، تطوّر من علاقة غير عادية بالاستعمار، وأنقاضه التاريخية. إزاء هذه الخلفية، فإن قابلية الصياغة الحالية للدولة تفرض الحاجة إلى أمة «مطهّرة» لا تكون فيها اختلافات عرقية أو دينية أو شكلية حتى، وهذا موضوع رمزي يحتاج إلى فانتازيا من التجانس الجماعي.
ثانياً، كليوباترا السوداء ونظيرتها البيضاء، تُسلّطان الضوء على دور «استعمار السلطة» أي تركّز الثروة والسلطة في المجتمع، خصوصاً عندما تكون ديناميكيات الحماية مُرتبطة بعنف الاستعمار والعرق والجنس أو الهيمنة الطبقية. لذا مِن الضروري تسليط الضوء على الدعائم الاستعمارية وأسس أشكال الدولة الحديثة، وكذلك فهم كيفية استمرار أنواع المنطق والممارسات والخطابات السياسية والاقتصادية التي تم وضعها أو ظهورها خلال الفترات الاستعمارية، واستمرت بطرق قوية بعد الاستقلال الرسمي حتى يومنا هذا.
ثالثاً، قد يسعى نهج إنهاء الاستعمار تجاه الدولة إلى فهم كيفية قيام الشبكات الأساسية وتأثير تدفقات القوة في المجتمع والعمليات الاقتصادية المحيطة بها في تجاوز الشحنة العاطفية الاستعمارية تجاه اللون: الأسود أو الأبيض، خصوصاً أنّ ارتفاع وتيرة التمييز من خلال الأيديولوجيات والسياسات والممارسات التي تستغلّ وتقمع وتهمّش، يتطلّب استكشاف الفضاءات الاستطرادية والسياسية والأيديولوجية وغيرها حيث قضايا العرق والطبقة والجنس، وبطريقة تجعل فئات التهميش المتعددة، الطبقة العاملة أو النساء الفقيرات من كُل لون (أي الطبقة والجنس والعرق)، تكتشف أنّها ليست فقط معزولة عن السلطة بل تختفي حرفياً من وجهة النظر التحليلية لخطاب الدولة، ما يجعل استمرار التهميش أسهل بالنسبة إلى الحكومات، وينعكس على ذُعر المواطن من اكتشاف مواطن آخر في حدود وطنه، لكنه مختلف عنه في الدين أو اللون أو العرق أو حتى الجنس (رجل/ امرأة).
رابعاً، السجال الواسع حول فيلم كليوباترا السوداء يعتبر نموذجاً لنهج الديكولونيالية (Decoloniality) بدلاً مما بعد الاستعمار لتحليل السلطة السياسية. من الأهمية بمكان عدم حصر فهم الصراعات الاجتماعية في ضوء «الموقع الطبقي»، أو النهج النقدي للأشخاص وأنظمة القوة السياسية والاقتصادية. الأهم من ذلك هو الوقوف على «الموقع المعرفي» الأكثر دقة. فوقوع المرء اجتماعياً في الجانب المُضطهَد من علاقات السلطة، لا يعني تلقائياً أنه يفكر معرفياً من موقع معرفي تابع. على وجه التحديد، فإن نجاح النظام العالمي الحديث الاستعماري يتمثل في جعل الأشخاص الموجودين اجتماعياً في الجانب المُضطهَد من الاختلاف الاستعماري، يفكرون بشكل معرفي مثل أولئك الموجودين في المواقف المهيمنة. خلاصة القول إنّ جزءاً من الرفض المصري للفيلم يأتي فكرياً من موقع الهيمنة، لكن هذه المرة يبدو الصراع المصري ــ الأفريقي أشبه بصراع عبيد المنزل ضد عبيد الحقل، من دون رؤية البعد الاحتكاري للهيمنة الغربية على فضائهم الفكري إلى جانب ثرواتهم واقتصادهم.
خامساً، وجهات النظر المعرفية التابعة هي معرفة تأتي من الأسفل تنتج منظوراً نقدياً للمعرفة المهيمنة في علاقات القوة المعنية. ببساطة إنّ المنظور الأكثر انتقاداً في كثير من الأحيان للسود الذين ظلوا الضحايا الأساسيين والأكثر تهميشاً لممارسات سلطة الدولة الأوروبية أو المستوحاة من أوروبا، لا يُمكن أن يمحى عبر الهندسة الاجتماعية بجعل أبطال الأفلام سود البشرة بدلاً عن إجراء تحليل تاريخي وفقاً للقانون الدولي لتمكين الفئات الأكثر تهميشاً عوضاً عن خلق صراعات نيوليبرالية لتسويق منتجات حقوقية تُخفي الظلم الحقيقي.
أخيراً، تحتاج الفئات المهمشة البحث والكتابة المستنيرة بالخبرات المعرفية والأخلاقية وحتى الأنطولوجية المشتركة عبر المجتمعات المتنوعة، كما يجب إنهاء التحكم في المعرفة التي تم إنتاجها عن الشعوب واستبدالها بمعرفة تتم من خلالهم وبواسطتهم، فضلاً عن التركيز على الاحتياجات والتطلعات ومشاركة المجتمع المعني بالحدث (كليوباترا حكمت مصر، لذا فرأي الشعب المصري حتى في تشنجه مهم ويجب أخذه في الاعتبار) بدلاً من جهود الباحث الفردي الأوروبي أو الغربي الذي دائماً ما يفتقد إلى عدسة تحليلية أصلية ولا يمكنه الانغماس العميق والحاسم في البيئة الثقافية المحلية، ويفشل في امتلاك المرونة المنهجية نتيجة الفكر الأيديولوجي وثقل حمولته. لذا قبل الاعتماد على «الأفروسنتريزم» كأيديولوجية وحيدة، كان يُفترض المجادلة من منظور تحليل الاستكشافات التاريخية والسياسية والاجتماعية والأنثروبولوجية على مستوى علم التاريخ، لكنّ هذه المقاربات تستدعي نوعاً من الخيال الخطابي المرن ومعالجة علمية لا تعرفها السوق النيوليبرالية للأجندات الاجتماعية.

«الملكة كليوباترا» بدءاً من 10 أيار (مايو) على نتفليكس