القاهرة | تنطلق نوعيّة الإثارة والتشويق من مفهوم الأحجية، وتعتمد في تكوينها على دقّة التتابع الدرامي وضبط الإيقاع بما يوفّر مساحةً للتلاعب بمخيّلة المُشاهد. لعبة أساسها التناوب بين الكشف والحجب، الإفصاح والمنع، من خلال الزجّ بالمتفرج داخل دوّامة السرد، بمنهجيّة غير خطية أو تراتبية، بحيث يحاول من خلال المعلومات المُتاحة أن يُلفّق وجهات نظر مختلفة ليضع تصوّراً للوقائع ككُل؛ يمنحه القُدرة على التنبؤ بما سيحدث لاحقاً. ولكي يحدث هذا التفرّد النوعي، يجب أن يحرص المُخرِج على اختيار السؤال أو الهاجس الذي يُلاحق المُشاهد، فالتيمة ذاتها مُتكررة وتقليدية من حيث الشكل. لذا فمن الضروري إيجاد منهجيّة طرح قصصي ناضجة ومُعاصرة تماشياً مع نوعيّة وفئة الجمهور المُستهدف درامياً، إلى جانب ضرورة الالتزام بمنطق سردي مُعيّن، مشدود ومحكم. وفي بعض الحالات، تخسر السرديّة جزءاً من قيمتها النوعيّة كجنس قصصي يرتكز على تكثيف الأحداث بنمط بصري يميل إلى التشويق والقلق، وتجميعها في سياق مُثير، ثم مُداهمة المُشاهد بصدمات مُباغتة، لأنها مستلهمة من عمل أدبي مشهور. هذا ما يُفقد السرديّة عنصر المُفاجأة التي تتسم به الأعمال الأصليّة، فالمشاهد يتعرّف على التيمة القصصيّة منذ البداية، أي الإطار الخارجي التي تتحرك داخله القصّة، خصوصاً إذا كانت السرديّة مُخلصة نوعاً ما للقصة الأصليّة، فالمُعالجة ذاتها لا تُلغي القصة الأصليّة، لكنها أيضاً لا تمنع السرديّة المُعالجة من الحركة الداخليّة بطريقتها الخاصة، فلونها الثقافي وقُدرتها على التعاطي مع موتيفات معاصرة، يمنحانها الثقل الكافي لإعادة خلق ذاتها مرّة أخرى، ليس لكونها تُقدّم شيئاً جديداً كُلياً، بل لأنها تطوّع الشكل والنموذج الخارجي بطريقة منطقية أقرب إلى المتفرّج المستهدف، وفي الوقت نفسه لا تخسر نُقطة قوّتها. ما زالت قادرة على الجذب وإثارة حفيظة المُشاهد ليتساءل: ماذا سيحدث في الحلقة القادمة؟
يدخل مُسلسل «رشيد» كنموذج ملائم لشروط وخواصّ الدراما التشويقية، كونه مُقتبساً من رواية «الكونت دي مونت كريستو» المشهورة، ما يمنحه هيبة على مستوى الوجود الدرامي، فالرواية ذائعة الصيت تمنح المُعالجة الدرامية أساساً قوياً كتيمة انتقام معهودة وقويّة من ناحية الكتابة الأدبية والرؤية والحبكة، ولكنها على الجهة الأخرى تأخذ منها بعض الأشياء، فالدهشة المُصاحبة لهذا النوع تخفت تدريجاً بالنسبة إلى من قرأ الرواية، إلى جانب تحميل ضغط مضاعف على كاتب السيناريو وسام صبري؛ فمرجعيته الأدبية تقع في حيّز التحف الكلاسيكيّة، ومن المفترض أن تُعالَج الرواية بحيث يكون المُنتج البصري متوسطاً على الأقل، بيد أن الأمر لا يتوقف على كاتب السيناريو، رغم أهميته المفرطة، بل إنّ المُسلسل يحتاج إلى فريق عمل ثقيل يمنح التصوّر البصري المناسب والإيقاع المُلائم للحكي.
يدور مُسلسل «رشيد» (15 حلقة)، بشكل موازٍ للرواية الأصليّة، حول رشيد (محمد ممدوح) رجُل متوسط الحال يسعى إلى الزواج مرّة أخرى بعد وفاة زوجته الأولى، لكنه يُتّهم بجريمة قتل لم يرتكبها، ويُسجن على إثرها لتتغيّر حياته إلى الأبد، ليتحوّل فجأة إلى أحد أثرياء القاهرة. في سردها، تتناوب المُخرِجة مي ممدوح على خطين مُختلفين تماماً، سواء على المستوى الزماني أو الشكلي. كُل شيء يتغيّر بين الحاضر والماضي، من دون أن يدرك المُشاهد ماهيّة تلك التغييرات بطريقة تمنحها أرضية منطقية يمكن على أساسها تجميع الحكاية وفهمها، لكنها تُفرّق بذكاء بين الزمانين، تمنحهما صفات مُختلفة على المستوى الشكلي والتقني: الماضي يمتلك خواص بصريّة تمنحه تفرداً شكلانيّاً، فالنسب ذاتها مُتباينة، تستخدم المُخرِجة قياس 4:3 في الماضي، إلى جانب انغماسها في مزاج لوني أقرب إلى الألوان الصفراء، لتعود في الحاضر إلى القياس المُعتاد مرة أخرى، وتلجأ إلى مزاج لوني أكثر حدّة وقتامة من الماضي. وهذا ينعكس بالضرورة على الشكل العام للحكاية، ويؤثّر على المتلقّي وكيفية استقباله للقصة. تلك الصيغ البصرية تُضيف طبقات إلى السردية، وتجعل الانتقال بين الفترتين شيئاً يحمل بداخله ثقلاً بصرياً ومعرفياً، ويعود ذلك إلى مديرة التصوير الرائعة نانسي عبد الفتاح، التي أضافت الكثير إلى النمط البصري، إلى جانب الموسيقار راجح داوود الذي أضاف بموسيقاه إلى السردية، رغم أن المُخرجة لم تحسن استخدام الموسيقى في أكثر من موضع، وأغرقت المشاهد بها في نقاط ولقطات غير ضرورية بالمرة.
نزعت المُخرجة نحو النهاية السعيدة التقليدية، رُبما لتُرضي الشريحة العريضة من الجمهور


لا بد من أن نذكر هنا أنّ مُسلسل «رشيد» هو العمل الأول لمُخرجته، بعد مشاركتها كمساعدة مخرج في أفلام ومسلسلات عدة، لكنه يُبشر بمخرجة واعدة، أضافت الكثير من المتعة إلى الموسم الرمضاني غزير الإنتاج لكن متواضع الجودة، والحقيقة أن المُسلسل لم يكن ليخرُج بالشكل المطلوب لولا الأداء التمثيلي المُمتاز لطاقم العمل بالكامل: محمد ممدوح يُثبت مع كُل تجربة أنه ممثل حقيقي، متجاوز للتجربة الواحدة، ويعمل على نفسه بجد واجتهاد ليخرج أفضل ما فيه، إلى جانب ريهام عبد الغفور، إحدى أفضل ممثلات جيلها، وقد أحسنت التنقل بين الشخصيات المختلفة في الزمانين، بالإضافة إلى الكثير من الممثلين المميزين، والمواهب الشابة مثل حسن مالك الذي قدم دور سيف أو جمايكا ابن الشارع.
ورغم كُل هذه الإيجابيات، فهُناك بعض الهفوات، خصوصاً في نهاية المسلسل، وإغلاق الخطوط السردية بعد التقائها في نقطة واحدة، نُقطة المُكاشفة والتعرّي الأخير. تشرح السردية نفسها في سياق المُكاشفة النهائي، وعلى غرار ذلك، هُناك بعض الشخصيات التي لم تأخذ كفايتها من السرد، وتم إغلاقها بسرعة لتواكب النسق. أسماء أخذت جزءاً صغيراً جداً من عملية التأسيس والمُكاشفة، لها ماض صعب تناولته السلسلة بشكل سطحي، وحاضر مؤثر، لكن تم تهميشه رغم وجود أسماء في الكثير من المشاهد كبطلة من أبطال المسلسل، بيد أنها في النهاية تم انتزاعها بسهولة. ورغم التزام المُسلسل بالشكل التقليدي للسرد، إلا أنّه كثّف كُل شيء داخل حلقة واحدة، ووضع في الحلقة الأخيرة كُل ما يُمكن وضعه، الكثير من الأحداث السريعة والخاطفة، ورغم جودة الحكي، نزعت المُخرجة نحو النهاية السعيدة التقليدية، رُبما لتُرضي الشريحة العريضة من الجمهور الذي يميل بطبعه إلى النهايات السعيدة كتنفيسة لما يتكبده في الحياة العادية، وكواقع موازٍ ينتصر فيه الخير على الشر، وليس العكس كما يحدث في الحياة العادية.

* مسلسل «رشيد» على منصة Watch it