خلال إحدى حلقات التدريب في حي برزة الدمشقي، سقطت قذيفة هاون في الباحة الخارجية للنادي. نسي محيي الدين وزملاؤه متعة الرقص، تحت وطأة الخوف من الموت رقصاً. صرخ بلهجةٍ شامية: «اللي بيحب النبي يخلي الصالة»، فأخلاها الراقصون. القذيفة القريبة لم تكن السبب الذي استدعى ترك دمشق. خلال أشهر، حولت الحرب دمشق ومحيطها في عيني محيي الدين التخين، إلى باحة خوف كبيرة، بعدما كانت مدينة حنونة، تحتضنه راقصاً متدرباً في شوارعها وحدائقها العامة. ومحيي الدين، شاب سوري في مطلع العشرين، متين البنية، بسبب عدد الضربات الموجعة والكسور التي تعرّض لها أثناء التدرب على الـbreak dance.
حافظ محيي الدين وصديقه علي المصري على حصص التدريب الحرة في الأماكن العامة، خصوصاً «حديقة تشرين»، أكبر الحدائق العامة في سوريا، ملتقى العشاق والعائلات نهاراً، ومكان مبيت عدد من المشردين ليلاً. تزامناً مع اتساع الأزمة نحو الأرياف، صارت «تشرين» ملجأً لخيم النازحين الذين كانوا يُنقلون إلى مراكز إيواء تابعة للدولة السورية، وإعادة الحديقة إلى حالتها الطبيعية. في المحصلة، تكاثرت مظاهر الحرب وضاقت مساحات الرقص. هكذا جاء محيي الدين وعلي إلى لبنان بهدف العمل، أسوةً بسوريين كثر. «توفقنا ببيت في بيروت، لكن نفدت أموالنا واضطررنا لتركه» يقول. يعرِّف محيي الدين عن نفسه بـ «شنايدر». أما علي، فسمّى نفسه «أليكس». اختار محيي الدين اسم «شنادير» كراقص «لأنه سهل اللفظ ومهضوم»، بينما وجد علي تقارباً لفظياً بين اسمه و«أليكس». كل راقص break dance يجب أن يكون له اسم «حركي»، وتكون صياغته في مثل حالة شنايدر مثلاً B Boy Schneider.

يتكئ أليكس
على يديه ويبدأ بالدوران كمروحة سريعة



لنبق في بيروت، حيث عمل شنايدر وأليكس نادلين في أحد المطاعم. كان عملاً مريراً ومتعباً كما يصفانه. برأيهما، لا يمكن مقارنة تعب العمل بتعب الرقص. بعد انتهاء الدوام، كان الإرهاق يتلاشى، مع بدء الرقص قرب شاطئ الرملة البيضاء. لا يحتاج الأمر إلى تجهيزات معقدة «نرقص أحياناً على صوت الهاتف الخليوي»، يقول أليكس. في شارع الحمرا يعلو صوت الموسيقى، ويعلو مستوى استفزاز المحترفين لبعضهم. يبدأ شنادير بالرقص على يد واحدة. الإحصاءات على موقع يوتيوب، تشير إلى أنّه الثالث عالمياً في استخدام هذه الحركة. ثمة ما هو أخطر منها، ونجح زميله فراس السببي «جيمي» ، في تأديتها بحرفية عالية. رقص على رأسه وشبك قدميه لتتشابه صورته مع صورة طاحونة الهواء. استدار بسرعة لأكثر من نصف دقيقة، صفق له الحاضرون. عند نهاية الرقص المجاني، تنتفخ العروق في أجسادهم وتحمر وجوههم من سرعة تدفق الدم. مجهود مضنٍ «لا يمنعنا عن متابعة تعلم حركات جديدة»، يشرح أليكس. ويشير جيمي إلى كتفه التي تهشّمت أكثر من مرة بسبب التدريبات. شنايدر كسر الواجهة الأمامية من أسنانه أثناء انتقاله من جهة إلى أخرى عبر استخدام كوعه. يُسمى هذا elbow fly. يصفون ما يحدث معهم بالتحدي، وشعار محترفي الـbreak dance : «أنت تريد إذا أنت تستطيع». ما زال شنايدر مصراً على إتقان حركة تسمى air flyer، وأساسها الانتقال بالرقص من يد إلى أخرى فيما ثقل الجسد يعاكس الجاذبية. جوهر رقصهم هو «تحدي قانون الجاذبية والانصياع للإيقاع السريع، أو بتعبير أدق الـbeat». مع الحديث عن أعمالهم الجديدة، ينخفض منسوب شعارات التحدي. بعد صدفةٍ جمعت شنايدر وأليكس بأحد الراقصين اللبنانيين، أوصلتهم موهبتهم إلى الرقص في برامج تحظى بنسب مشاهدة عالية، كـ «أراب آيدول» و«آرابز غوت تالنت»، حيث نالوا جائزة في البرنامج الأخير. كغيرهم من السوريين، مكّنوا حياتهم الجديدة في لبنان، ولا ينوون العودة إلى سوريا إلا بعد انتهاء الأزمة على نحوٍ تام. يشاركون في برامج تلفزيونية، وينتظرون حظهم من حفلات الأعراس. يتقاضون خمسين دولاراً للراقص بدلاً من زفّة الـ break dance.
يعود علي للحديث عن سوريا وموسيقاها المشبعة بصوت الأسلحة. يرفض الشاب العشريني لغة السلاح بين السوريين. يحلو لجيمي أن يسميها باللعبة التي لا نهاية لها. يقصد الرقص. أما الحرب فـ«منتهية إن لم يكن اليوم فغداً أو بعد غد». يمازحنا شنايدر «قد تنتهي الحرب قبل أن أتقن الـair flyer، وقبل أن يرضى أهلي عن امتهاني لهذا النوع من الرقص الخطير». ينتهي الحديث في المقهى، لتبدأ جولة رقص جديدة. الساعة الآن تشير إلى التاسعة مساءً. ضوء القمر أقوى من ضوء المصابيح. يتكئ أليكس على يديه ويبدأ بالدوران كمروحة سريعة. يطبق ما قاله أثناء الحديث في المقهى: «رقصنا غايته إخراج الإنسان من حالة سلبية إلى أخرى إيجابية. لنقل من الكآبة إلى الفرح». يتعاطى جيمي مع عيشه القسري في بيروت وسكن أهله في إيطاليا، كأنه رقصة طويلة. هو الآن في مراحلها المتعبة، لكنها ستخرجه، كما يتمنى، نحو فرحة العودة إلى «حي الميدان» الدمشقي حيث عاش طفولته. حينها، يريد جيمي، كما يقول، علماً سورياً يلتف على جسده، وموسيقى صاخبة في قلب الشام، ليرقص على الملأ، معلناً «نهاية الحرب».




صدقَ نيتشه

يقول محيي الدين إنّ التشابه بينهم وبين شباب الـ emos هو شكلي فقط. في الحالتين، يضحك محيي الدين ورفيقاه، ويستهجنون الربط بينهم وبين هؤلاء المراهقين الذين يتبعون موضة في الملبس والأكسسوارات تستلهم نمطها من رموز الروك، لكنّهم اضطهدوا في العالم العربي وتعرّضوا لمذبحة حقيقية قبل سنتين في العراق بدعوى «عبادة الشيطان» (الأخبار 9/3/2012). لا يتوقف محيي الدين عند هذا الجهل المطبق في العالم العربي حول موضة «الإيمو» والظلامية التي تنظر بعين الريبة إلى الفنّ بشكل عام، وإلى كل ما هو مختلف أيضاً. من جهته، يستنجد جيمي بنيتشه قائلاً: «أولئك الذين يعتبرون أنّ الراقصين يمارسون الخطيئة، يفعلون كذلك، لأنهم لا يجيدون سماع الموسيقى».