يبدو مسلسل «النار بالنار» (كتابة رامي كوسا ــــ إخراج محمد عبد العزيز ــــ وبطولة عابد فهد، كاريس بشار، جورج خبّاز، طارق تميم، جمال العلي، زينة مكي، هدى الشعراوي وإنتاج «الصبّاح إخوان») من أبرز أعمال هذا الموسم. الاحتفاء الصريح به يبدو في أحسن أحواله، إضافة إلى التنويه إليه على العديد من صفحات السوشال ميديا. لكن بعيداً عن اعتراض كاتب المسلسل العلني والصريح على التعديلات الجذرية التي أجراها المخرج وتحريف الشخصيات عن مسارها المكتوب على الورق ونسب الجهد إلى ورشة افتراضية سمّتها الشارة «ورشة الصبّاح»، يمكن التعقيب النقدي على الحلقات العشر الأولى من المسلسل. تنطلق نقطة الخلاف مع منطق العمل بشكله النهائي، بدءاً من شارته وظهور اسم ورشة افتراضية لا يُفصح عن أسمائها، كأننا أمام ورشة تهريب أو تجّار آثار! كيف يمكن للمشاهد أن يقبل متابعة مادة بصرية تحكي عن أكثر المواضيع المعاصرة حساسيةً وهي العنصرية المتبادلة بين اللبنانيين والسوريين، والمعارك الباردة والحامية بينهما على خلفية تاريخ مربك بين البلدين الجارين، من دون نسبها إلى كتّاب بأسمائهم الصريحة... إلا إذا كان المسلسل خطيئة لا يريد أصحابها ظهور أسمائهم عليها، أو أن الحركة ليست سوى مداراة للخلاف الحاصل الذي أحال اسم الكاتب على الشارة إلى صاحب القصة ونسب السيناريو لورشة الصبّاح. في كلّ الأحوال، يرصد العمل بطريقة جذابة مجموعة من النماذج السورية اللبنانية التي تعيش في حيّ شعبي، وتنطلق حكاياته من المرابي والانتهازي الذي يتاجر بحاجات أبناء الحيّ عمران (عابد فهد) ويسير بتصاعدية وحبكة لطيفة، وتداخل منطقي للشخصيات... إلى أن نصل إلى العقدة المركزية التي تربط جميع الشخصيات بمجرّد ظهورها، وتزيد من منسوب الدراما في الحكاية مع شخصية مريم (كاريس بشّار) النازحة السورية من حي الشيخ محي الدين بن عربي.

كاريس بشار في المسلسل

سيدة جميلة محجّبة بسيطة موغلة في الطيبة، قست عليها الحياة، وأمعنت في قسوتها عندما تعرّضت مريم للنشل لحظة وصولها بطريقة غير شرعية إلى لبنان. هذه الشخصية تترك فرصة لظهور المتناقضات الصارخة في صيغة الحكاية كما شاهدناها على الشاشة، بداية بالهيئة البرّانية لمريم التي تبدو فعلاً على المستوى الشكلي، كأنها نزحت من صالونات التجميل والمسلسلات التركية، وصولاً إلى منطقها في الحديث والحوار. إذ تبدو حيناً جاهلة تحمل سكيناً في حقيبتها لتدافع فيها عن نفسها، ثم تعود في مطرح آخر، خصوصاً لدى صراعها مع جورج خباز عند تعليق لافتة كُتب عليها «يمنع تجوّل السوريين بعد الثامنة مساءً»، لتكشف عن براعتها باللغة العربية، وقدرتها الصريحة على النقاش، وعمقها ووزانتها الفكرية. أمر يتناقض جذرياً مع بنية الشخصية وتاريخها ومكنوناتها وخلفيتها المجتمعية ومستواها الثقافي، عدا عن التناقض الثاني في فكرة دفاعها عن وجود الجيش السوري في لبنان، علماً بأنها زوجة معتقل وصل إلى السجون ظلماً ولا يمكن لشخص مثلها أن يتبنى رواية السلطة.
طبعاً يجدر لفت النظر إلى أن هذه الشخصيّة تعدّلت جذرياً شكلاً ومضموناً بين الورق والصورة، فيما تبدو فكرة مناماتها ورؤيتها للشيخ محي الدين بن عربي مقحمة بدون أي معنى أو انسجام مع سياق القصة الأساسية، وبلا أي معنى درامي واضح، ويبدو تجسيدها كوميدياً، خصوصاً عندما نسمع الشيخ الأكبر يتحدّث مع مريم في أوّل مناماتها بلهجة لبنانية قبل أن يعطيها عنقود العنب. يستمر التناقض المتواصل، خصوصاً في سلوك عمران الذي يفضّل النقود على أهله. لكننا فجأة نجده يتنازل عن مطامعه أمام مريم من دون تمهيد أو مقومات وافية تبرر فكرة تنازله عن أجره عندما يريد أن يسألها عن مصير زوجها في المعتقلات السورية، ثم يعود مرّة ثانية بدون حزمه المعتاد ليطالب السيدة التي يبدو أنه وقع في غرامها بفوائد بسيطة لا تتجاوز 50 دولاراً أميركياً. التعاطف ذاته لا نفهمه عند بائع اليانصيب الصغير الذي يعيش في الشوارع تابعاً لعمران، ويبدو متشرّباً بمنطقه المنفلت أيضاً. يبدي شراسة عاطفية مفرطة لصالح مريم، من دون فهم الأسباب والدوافع والمبررات.
طارق تميم يبدو مرتاحاً للحد الأقصى بعيداً عن أي تصنّع أو ادعاء

أضف إلى ذلك أنّ الحجة ضعيفة تماماً في الرد على العنصرية اللبنانية المتمثلة في الشخصية التي يلعبها جورج خبّاز وتترك فرصة لرجحان الرواية اللبنانية المتعصّبة ضد جميع السوريين. إذ يغيب العمق الوافي لمناقشتها بهدوء ونسف فكرة التعميم القاتلة التي غرق فيها كثيرون، وإبعاد جريرة التجاوزات التي ارتكبت أثناء الوصاية السورية، عن اللاجئين السوريين الذين هربوا من نيران الحرب التي عانى منها اللبنانيون طويلاً!
المسلسل بجزء منه مجحف بحق السوريين، لا يعكس مرحلة النزوح الحرجة المسيّجة بالوجع والعوز، كونه يقترح مجموعة نماذج سورية غارقة في الانحدار بدءاً من عمران، مروراً بصبي اليانصيب، وصولاً إلى شخصية قذرة انتهازية ومتحرشة يؤديها جمال العلي، إضافة إلى سيدة مسنة تدير بيتاً للقمار تلعبها هدى الشعراوي ومجموعة بنات يشتغلن عندها... من دون وجود شخصيّات سورية خيّرة وصالحة ومثقفة ترجّح الكفة فعلياً، وتسلّط الضوء على شريحة واسعة من اللاجئين المتعلّمين الذين أضافوا شيئاً ما خلال فترة وجودهم في لبنان ولم يتركوا خلفهم رذيلة وأذى واستغلالاً!
كلّ ذلك لا يعيب جمال الصورة التي يظهر بها العمل وتبدو أنها نكهته الأبرز إلى جانب الأداء الحقيقي العفوي عند غالبية الممثلين، على رأسهم طارق تميم الذي يبدو مرتاحاً للحد الأقصى بعيداً عن أي تصنّع أو ادعاء منسجماً مع فكرة العفوية المطلقة في الأداء.

* «النار بالنار»: س: 20:30 على LBC ـــ وMBC و«شاهد»