غيّب الموت أمس الأم المؤسّسة لـ«دار الآداب» عايدة مطرجي إدريس (1934-2023)، رفيقة درب الروائي والناشر سهيل إدريس (1928-2008) مؤسّس مجلة «الآداب» التي أسهمت في تشكيل الحياة الثقافية في بيروت منذ ستينيات القرن الماضي، جنباً إلى جنب مع الدار التي شاركت عايدة في صياغة رؤيتها الساعية إلى نشر ثقافة عربية تقدمية جدية في الأدب والشعر والدراسات والروايات والترجمات: «أنشأنا «دار الآداب» عام 1956 بعدما شعرنا بأن مجلة «الآداب» البيروتية، التي صدر عددها الأول عام 1953، لا تستطيع أن تستوعب طموحاتنا في نشر الفكر العربي وتطوراته وأننا بحاجة إلى إصدار مؤلَّفات مطوّلة وموثّقة تتناول مختلف ألوان الإنتاج الجاد في ميدان الدراسات والترجمات والروايات والدواوين الشعرية والمسرحيات، كل ذلك بتوجّه تنويري، غايته الإسهامُ في خلق نهضة ثقافية كبيرة تكون مواصلة لما قدّمه العرب في القرون السابقة. وقد عملنا منذ نشأة الدار على تنفيذ هذا المخطط الثقافي. وكان كثير من المثقفين العرب يلجأون إلى «دار الآداب» لينشروا نتاجهم الذي لم يكونوا يستطيعون دائماً نشره في بلادهم، بفضل ما تتمتّع به بيروت من جوّ الحريات والابتعاد عن الرقابات الصارمة التي تفرضها كثير من السلطات العربية». كانت لعايدة بصمات كبيرة في تعريف جمهور القراء في لبنان والعالم العربي على مؤلفات ثلاثي الثقافة الباريسي في القرن الماضي: إذ صدرت عند «دار الآداب» في عام 1964 رواية «قوة الأشياء» لسيمون دو بوفوار وهي أولى ترجمات عايدة. بعد عامين، ترجمت عمل الفيلسوف جان بول سارتر «عاصفة على السكر»، ومن ثم رواية «الصور الجميلة» لدو بوفوار عام 1966، و«الغريب وقصص أخرى» (2008) لألبير كامو، و«الموت السعيد» لكامو أيضاً في عام 2014، إضافة إلى ترجمة «البحّار الذي لفظه البحر» للروائي الياباني يوكو ميشيما عام 2010. أضف إلى ذلك دورها الملموس في قاموس «المنهل» الذي ألّفه سهيل إدريس، وإصدارها مجموعةً قصصيةً بعنوان «الذين لا يبكون» عام 1966. تزوّجت عايدة بالكاتب اللبناني سهيل إدريس عام 1956، وأنجبت منه ثلاثة أولاد: رائدة ورنا والراحل سماح الذي وصف أدوارها التي تختلط فيها الثقافة بالأمومة، والمهنية بالحنو والعطف في مقال قبل وقت قصير من رحيله الباكر بعنوان «عايدة مطرجي إدريس: حين تنجب الثقافة أماً».
«في فتراتٍ لاحقة، صارت عايدة تستيقظ باكراً جداً لتصحِّحَ موادَّ القاموس العربيّ ــــ الفرنسيّ، الذي بدأه سهيل ورحل قبل أن يُكمِلَه، فتركه أمانةً بين يديْ حبيبتِه وأولادِه. بعد أن تهيّئ عايدة نفسَها للذهاب إلى مكاتب «دار الآداب»، لا تنسى أنّها ــــ بالتوازي مع كونها فاعلةً ثقافيّةً عربيّةً نادرةً ــــ أمٌّ لـ «أطفالٍ» ثلاثة، مع أنّها اليومَ تجاوزتِ الثمانين وتجاوزوا الخمسين. تذهب إلى المطبخ، وتفتح البرّادَ والخزائن، فتسحبُ منها ما لذّ وطاب ممّا سيأكلُه أولادُها، وخصوصاً أنا، في المكتب، عمّا قليل: لبنة، جبنة، بندورة، زيتون، خيار، بيْض، زعتر،...ولا تنسى أن تلومَني بين سؤالٍ لغويّ وآخر: «ليش ما أكلت هالفستقاية؟... ولك كفّيها لعروس ها اللبنة. رح تضلّك لآخر الليل بلا آكل»... وللإشارة إلى مساهماتها في المجلة والدار، يتابع سماح: «كثيرون يقولون إنّ عايدة ضحّت بموهبتِها كي تكونَ جهازَ دعمٍ وإسنادٍ لمؤسّسة الآداب، من كبيرها (سهيل) إلى أصغرها (سماح). لكنّ عايدة لا تفكِّر كذلك؛ فهي تَعتبر أنّ الأساسَ هو المشروع: المجلّة، الدار، القاموس، المؤسَّسة، الثقافة العربيّة. بعضُ النسويّات قد يعتقدن أنّها تنازلتْ عن طموحاتِها ومواهبِها وذكائها (الخارق) كي تساعدَ عائلتَها. ولكنّ عايدة لا تَعدُّ ذلك صحيحاً لأنّها ترى ذاتَها وطموحاتِها في كلّ كتابٍ يَصدر عن «دار الآداب» (بإشرافها المباشر)، وفي كلّ عددٍ يَصدر من مجلة «الآداب» (بإشرافي شخصياً)، وفي كلّ حرفٍ يُنجَز من قاموسنا العتيد (بإشرافنا جميعاً)». بغياب عايدة مطرجي إدريس، تستكمل بيروت المستنزفة خساراتها في أجمل الوجوه التي جعلتها يوماً ما عاصفة للثقافة في الشرق ككل، وقد رثا الروائي الجزائري واسيني الأعرج الراحلة بكلمات مؤثّرة على حسابه في فايسبوك: «وداعاً أمّنا العظيمة عايدة مطرجي إدريس. يكفي أنك أسّست الدار العظيمة: دار الآداب التي ما زالت، في هذا الزمن الصعب، مرجعنا الكبير للأدب الرفيع، برفقة رفيق دربك الحياتي والثقافي المرحوم سهيل إدريس. يكفي أنّك كنت وراء تأسيس مجلة «الآداب» التي قاومت ثقافة الموت مقترحة ثقافة تنويرية حقيقية. يكفي أنّك كنت وراء ترجمة الفلسفة الوجودية من خلال أقطابها سارتر وألبير كامو. يكفي أنّك كنت أمّ جميع الكتاب ولم تكوني مجرد ناشرة. لروحك الرحمة والسلام. سنفتقدك كثيراً».

* يُصلّى على جثمانها اليوم الثلاثاء في «جامع الخاشقجي» بعد صلاة الظهر وتُقبل التعازي غداً الأربعاء في «جمعية خرّيجي الجامعة الأميركية» من الساعة العاشرة والنصف صباحاً حتى الخامسة والنصف عصراً.