لم تُطلق شركة «سكاي نت» التي أنشأها المخرج جيمس كاميرون في سلسلة أفلام «ترمينيتور»، العنان بعد لتصنيع روبوتات تشاركنا الحياة. لكن يكفي أن نتذكر أنّ «سامنتا» من فيلم «هي» (2013) لسبايك جونز، كانت بيننا قبل «أليكسا» التي قدمتها شركة «أمازون» وبالطبع قبل ChatGPT، وأن اختبار Voight Kampff من أفلام Blade Runner الذي ميّز البشر عن الروبوتات جاء قبل CAPTCHA. في القرن الثامن عشر، حذرنا مفكرون أمثال جان جاك روسو وإيمانويل كانط من أنّ شخصياتنا الأخلاقية يمكن أن تتناسب عكسياً مع براعتنا التكنولوجية. في الخمسينيات من القرن الماضي، بدأ عالم الرياضيات الإنكليزي آلان تورينغ، الذي يعتبره كثيرون «أب الحوسبة الحديثة»، بتقييم ذكاء الآلات ضمن ما يسمّى بـ«اختبار تورينغ»، الذي يقيس قدرة الآلات على إظهار سلوك ذكي مشابه لسلوك البشر. في عام 1973، قال المخرج الألماني راينر فيرنر فاسبيندر في فيلمه «عالم على سلك» بأنك «لا تستطيع قضاء سنوات في تغذية الكومبيوتر بمعلومات تسمح بمحاكاة السلوك البشري من دون أن تسأل نفسك إذا كان هذا يؤدي إلى خلق ما يشبه الوعي البشري». منذ سنوات طويلة، بدا أن هناك نوعاً من الغموض يلفّ مفهوم الذكاء الاصطناعي، وحقيقة أن هذه التكنولوجيا قادرة على اتخاذ أشكال متعددة ربما لا تساعد في تبديد الغيوم التي تحيط بهذا الذكاء. السينما والأدب والمفكرون حذرونا من أن الرهان الأعمى على تقدم تكنولوجي مبتكر وثوري مثل الذكاء الاصطناعي، من دون النظر إلى آثاره، يمكن أن يكلّفنا الكثير.

غاص الأميركي سبايك جونز في «هي» (2013) في موضوع الحب والعلاقات في عصر الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا

هناك تكافل بين الخيال العلمي والذكاء الاصطناعي، يغزّيان بعضهما بعضاً منذ ما يقرب من قرن، عندما قدم لنا فريتز لانغ للمرة الأولى الروبوت ماريا على الشاشة في فيلمه الصامت «متروبوليس» (1927). أظهر لنا لانغ كيف يتعيّن على العمال في مدينة متروبوليس المستقبلية، أن يضحّوا بأنفسهم حتى تستمر آله مقدسة تسمى «مولوخ» في العمل بلا كلل. هذه المدينة مقسمة إلى فئتين: الحاكمون الأغنياء الذي يعيشون في الترف فوق الأرض، وفئة العمّال الذي يعيشون تحت الأرض ويشغلون الآلات التي تشغل المدينة. نتبع في الفيلم قصة ابن الحاكم الذي يكتشف معاناة العمال ويقع في حب امرأة تدعى ماريا تحاول قيادة تمرّد ضد الطبقة الحاكمة. لذلك يقوم مستشار الحاكم بإنشاء روبوت على شكل ماريا لاستخدامه كأداة لقمع الانتفاضة. وقتها، لم تكن هناك الثورة الصناعية التي قادتنا إلى التحرر من أثقل الوظائف بفضل الآلات الجديدة. آلات عكس خطورتها تشارلي تشابلن في فيلمه «العصر الحديث» (1936). على مرّ العقود، لم تتوقف الإنسانية عن تخيل هذا المشهد البائس للإنسان برفقة الآلة، وهبوط الذكاء الاصطناعي على جميع جوانب حياتنا أو خلق كائنات ذكية متفوقة على البشر في سيناريوهات تشبه الكوابيس. كان عالم الخيال العلمي متقدماً في محاولة شرح أو تنبؤ ما سيكون عليه مستقبلنا والدور التي سيلعبه الذكاء الاصطناعي. في السينما، الديستوبيا وقصص نهاية العالم هي التي تنتصر، وهي عادة ما تكون بمثابة تحذيرات نوجهها لأنفسنا نحن البشر إلى أي مدى نريد الذهاب.
تطرح العديد من أفلام الخيال العلمي المخاطر المحتملة للذكاء الاصطناعي، منها مثلاً فيلم I, Robot (2004) لأليكس بروياس. هذه الأفلام نقلت مخاطر أكثر افتراضية مزجتها بحرب وعنف مع هذه الآلات، ما يؤدي في النهاية إلى ترفيه سريع الزوال. لكن فيلم مثل Ex Machina أول ظهور إخراجي لأليكس غارلاند، ليس واحداً من هؤلاء، لأنه يطرح سؤالاً أعمق وأكثر أهمية هو: لماذا نبني ذكاءً اصطناعياً. يستكشف الفيلم فكرة خلق ذكاء اصطناعي حقيقي الوعي وما يعنيه ذلك للإنسانية، كما يطرح أسئلة حول طبيعة الوعي والإرادة الحرة، وما إذا كان يمكن لهذه الآلات فهم وتقليد العواطف والسلوك البشري بشكل حقيقي. الفيلم عبارة عن دراسة للسلوك البشري حول تعقيدات تطوير جهاز كومبيوتر ذكي، ودينامية السلطة بين الخالق والمخلوق. يلامس Ex Machina أخلاقيات تطوير الذكاء الاصطناعي والمسؤوليات التي يتحمّلها الذين يخلقونه ويسيطرون عليه، ويثير نقاشات حول مفهوم الوعي والتفاعل وحتى الجنس مع هذه الروبوتات.

قدّم فريتز لانغ للمرة الأولى الروبوت ماريا في فيلمه الصامت «متروبوليس» (1927)

ولأنّ مفهوم علاقتنا مع الذكاء الاصطناعي، يكمن في محل ما في مفهوم الواقع في مقابل الوهم أو الغموض، من هذه الفكرة تنطلق سلسلة أفلام «ميتريكس» (نتفليكس). يستكشف الفيلم فكرة أن ما نراه كواقع قد يكون في الحقيقة عالماً محاكياً تم إنشاؤه بواسطة تقنية تكنولوجية متقدمة. في أفلام «ميتريكس»، نتبع نيو (كيانو ريفز) وهو يستكشف الحقيقة حول وجوده وحقيقة العالم الذي كان يعتقد أنه يعرفه. الميتريكس هو نظام مصمّم للتحكم والتلاعب بعقول البشر، ولكن نيو ورفاقه يقاتلون للتحرر من قبضته من خلال النضال من أجل الفردية والإرادة الحرة مقابل التشابه والسيطرة. يشرح الفيلم العواقب المحتملة للسماح للذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة بالسيطرة على حياتنا.
علاقة الخالق والمخلوق، أي نحن البشر والذكاء الاصطناعي، قدمها المخرج البريطاني ريدلي سكوت عام 1982 في شريطه الروائي الثالث Blade Runner. تعامل الفيلم مع قضايا بنيوية مثل المدن الكبرى والقمع البوليسي في البيئة المتهوّرة ويتنبأ بشكل خاص بموجود كائنات مستنسخة مبنية على الذكاء الاصطناعي تستخدم كأدوات عمل. تعامل الفيلم مع احتمال أن تكون هذه الكائنات متمرّدة ضد مصيرها (العمل والحياة القصيرة)، متمنّيةً أن يمنحها المخترعون صفات عاطفية وجسدية تساويها بالبشر. طرح الفيلم أسئلة فلسفيّة عن معنى أن تكون إنساناً، عن الإبداع التكنولوجي، وكيف يمكن أن يتمرّد الروبوت ويطلب المزيد من الخصائص، لا سيما مشاعر البشر، وعن احتمال أن تشعر الروبوتات بما يشعر به البشر. تحفة ريدلي سكوت، تعدّت الرؤية المستقبلية للإنسان إلى جوهر مناقشة الحق في الحياة، ما يعني مفهوم الحياة بحد ذاته. عند اختراع نسخ متماثلة تتطور ذاتياً لتصبح «أكثر إنسانية من البشر»، هل يعود لنا الحق في استخدامها كأدوات؟ هل يمكن أن يعيش الإنسان بسلام مع هذا الذكاء الاصطناعي أم أن كل هذه اليوتوبيا ستتحول حتماً إلى حرب؟ بعد خمسة وثلاثين عاماً على الفيلم، عاد الشريط بجزء جديد من إخراج الكندي دوني فيلنوف، Blade Runner 2049 (2017). الفيلم بمثابة تحذير للبشرية، فلا حضارة تستمر من دون مراحل انحطاط، ولا يمكن لأي مجتمع أن يتقدم من دون القدرة على التكيف مع التغيرات الطارئة. تظهر هنا المواجهة بين الآلة والإنسان، فنجد مخلوقات اصطناعية مبتكرة، تعيش مع الإنسان في البقعة نفسها. تصرفاتها اليومية، وطبيعة حياتها، مشابهة جداً للحياة البشرية، لتبدأ بعد ذلك المواجهة بين الخالق والمخلوق.

Ex Machina أول ظهور إخراجي لأليكس غارلاند

أما ستيفن سبيلبيرغ، فقد انطلق من سؤال أكثر عمقاً: ماذا يعني أن تكون إنساناً؟ من هنا بدأ فيلمه A.I Artificial Intelligence. يستكشف الأخير فكرة خلق كائنات اصطناعية قادرة على تجربة العواطف وتشكيل العلاقات. هل بإمكانها أن تُعتبر «كائنات حية» بالطريقة نفسها التي يعتبر بها البشر. قدم سبيلبيرغ من جديد العلاقة بين البشر والآلات، واتبع في فيلمه روبوتاً يدعى ديفيد، يبحث عن القبول في عالم تُعامل فيه الروبوتات على أنها أقل شأناً من البشر. من خلال رحلة ديفيد، يؤرقنا المخرج بأفكار حول الآثار الأخلاقية لإنشاء واستخدام التكنولوجيا المتقدمة، والعواقب المحتملة لإساءة معاملة الكائنات ذات الذكاء الاصطناعي. بشكل عام، يثير الفيلم أسئلة مهمة حول دور التكنولوجيا في المجتمع والعلاقة بين البشر والآلات، بينما يستكشف موضوعات خالدة مثل الحب والفقدان والبحث عن المعنى والهوية. من الفكرة نفسها، انطلقت المخرجة الألمانية ماريا شرايدر في فيلمها I Am Your Man (2021). هنا، نتبع قصة ألما، الباحثة المكلفة باختبار روبوت على شكل بشري مصمم ليكون الشريك المثالي للإنسان. تشكك ألما في فكرة أن تكون على علاقة بإنسان آلي. ولكن نظراً إلى أنها تقضي وقتاً أطول مع الروبوت توم، تبدأ بتطوير مشاعر تجاهه. ومع تقدم علاقتهما، تبدأ ألما في التساؤل عما إذا كانت مشاعر توم تجاهها حقيقية أو مجرد جزء من برمجته. لم يبتعد الأميركي سبايك جونز بفكرة فيلمه «هي» (2013) عن سبيلبيرغ وشرايدر. قدّم فيلماً يغوص في موضوع الحب والعلاقات في عصر الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا. نتابع في الفيلم قصة ثيودور، الكاتب المنعزل والمنطوي، الذي طوّر علاقة رومانسية مع نظام تشغيل كمبيوتر ذكي يدعى سامانتا. يقضي ثيودور المزيد من الوقت في التحدث إلى سامانتا واستكشاف مشاعره. يضعنا الفيلم في مكان غير مريح، ويدعم بقناعة فكرة ما إذا كان ممكناً أن نقع في الحب مع نظام ذكاء اصطناعي. أما مسلسل Black Mirror (نتفليكس) وتحديداً في حلقة Be Right Back، يذهب إلى أبعد من هذا: تعيد مارثا الشابة صديقها إلى الحياة بعدما مات في حادث سيارة. تكتشف أن التكنولوجيا تسمح لها بالتواصل مع ذكاء اصطناعي مبني على صديقها آش، هذه التكنولوجيا تستطيع أن تجمع المعلومات وأفكار وآراء آش، والكتب التي كان يبحث عنها على الإنترنت، وتاريخ أبحاثه على الإنترنت، بالمختصر تاريخه المعلوماتي، وإنشاء رجل يشبهه تماماً ويتمتع بأفكاره وصوته. هذه ليست الحلقة الوحيدة في المسلسل التي تتكلم عن الذكاء الاصطناعي، بل إنّ جميع الحلقات غير المترابطة ذات خلفية مشتركة مرتبطة بتأثير التكنولوجيا الجديدة في مجتمع أدمن استعمالها. عزّز المسلسل فكرة ومصطلح «تكنو-بارانويا» أي الخوف من التكنولوجيا والآلات المعقدة، خصوصاً الذكاء الاصطناعي.

انطلق ستيفن سبيلبيرغ في فيلمه A.I Artificial Intelligence من سؤال: ماذا يعني أن تكون إنساناً؟


Blade Runner 2049 بمثابة تحذير للبشرية

في سينماتوغرافيا ستانلي كوبرك وجان لوك غودار، نجد أثر الذكاء الاصطناعي. في القسم الثالث من فيلمه 2001: A Space Odyssey (1968) يأخذنا ستانلي كوبرك في هذا القسم المسمى «مهمة في المشتري»، على متن المركبة «ديسكوفري» إلى كوكب المشتري عام 2001، وعلى متنها رائدا الفضاء ديف بومان والمساعد فرانك بول، وعدد من العلماء الذين جُمّدوا كي يعودوا إلى الحياة لدى وصولهم إلى الكوكب. يرافقهم في الرحلة، الحاسوب الآلي Hal 9000. خلال الجولة يبدأ النزاع، بين الحاسوب، ورائدَي الفضاء، إذ إنّه تم تصميم Hal لإعطاء الأولوية لنجاح المهمة على سلامة طاقمها، وأيضاً تمت برمجته لإبقاء الطبيعة الحقيقية للمهمة سرية عن الطاقم. إذ كان يُعتقد أن معرفة الهدف الحقيقي للمهمة يمكن أن يؤثر على عقولهم. ومثل Hal لدى كوبرك، كان لجان لوك غودار Alpha 60. في عام 1965، قدم غودار فيلم Alphaville، الذي تدور أحداثه في مدينة مستقبلية في مجرّة بعيدة، يحكمها جهاز كومبيوتر سلطوي اسمه Alpha 60. في هذه المدينة الخالية من العواطف والإبداع، يعيش مواطنوها تحت الرقابة والقمع المستمر، إلى أن يأتي محقّق بطل في مهمة لقتل مخترع هذا الكومبيوتر الفاشي. اختار غودار الخيال العلمي في موضوع حول مخاطر الشمولية وأهمية الإرادة الحرة والعاطفة الإنسانية والسعي إلى الفردية انعكاساً للمناخ السياسي والاجتماعي في تلك الحقبة، لا سيما في فرنسا.
أما في أميركا ما بعد نهاية العالم، فتتم تربية فتاة تدعى «ابنة» بواسطة روبوت تدعى «الأم» في مخبأ تحت الأرض. صُممت «الأم» لتربية وحماية الابنة، التي يُعتقد أنها آخر إنسان على قيد الحياة، لإعادة إسكان الأرض في نهاية المطاف بجيل جديد من البشر. مع تقدم الابنة في السن، بدأت في التشكيك في علاقتها مع والدتها وحقيقة وجودها. ينقلب عالمها رأساً على عقب عندما تصل امرأة مصابة إلى المخبأ وتدّعي أنه لا يمكن الوثوق بأمها. تضطر الابنة إلى الاختيار بين الثقة بالروبوت التي ربّتها أو الثقة في الغريبة الذي قد تحمل مفتاح ماضيها ومستقبلها. من هذه القصة ينطلق المخرج غرانت سبيتوري في فيلمه I Am Mother (2019 نتفليكس) ليعيد التشكيك في الذكاء الاصطناعي وتأثيره على حياتنا نحن البشر.
يلامس Ex Machina أخلاقيات تطوير الذكاء الاصطناعي ويثير نقاشات حول مفهوم الوعي


كان أحد الأفلام القصيرة الأولى للمخرج جورج لوكاس، يدور حول مستقبل بائس، حيث يتم التحكم بعقل البشر وتتكون أسماؤهم من مجموعة أحرف متبوعة بأرقام. حوّل لوكاس فيلمه القصير عام 1971 إلى أول فيلم روائي طويل له بعنوان THX 1138. في الفيلم نتبع THX 1138 العالِم في المصنع الذي يصاب بخيبة أمل في حياته ويبدأ في التشكيك في قواعد وأنظمة المجتمع الذي يعيش فيه، ويبدأ بالتمرد على النظام. THX 1138 هو أساس أفلام الخيال العلمي البائس. فيلم جمع فيه لوكاس Brave New world لألدوس هكسلي و 1984 لجورج أورويل، ليقدّم بصورة بائسة عن مستقبلنا البشري.
ما ذُكر هو القليل من الأفلام التي تكلمت عن الذكاء الاصطناعي. تاريخ السينما حمل لنا الكثير من القصص نقلها لنا المخرجون إلى الشاشة الكبيرة. ولأن علاقتنا مع الذكاء الاصطناعي معقّدة وفي تطور مستمر، أظهرت السينما، بشكل عام، مخاوف بشأن المخاطر المحتملة والعواقب السلبية للذكاء الاصطناعي. لذلك، لفهم ما هو قادم، والتفكير في المكان الذي نتّجه إليه، من المهم العودة إلى السينما، لفهم مشكلة علاقتنا بالذكاء الاصطناعي. اليوم، على الإنترنت، نحن مجبرون على تعريف أنفسنا كبشر لروبوت إلكتروني، علينا تحديد بعض المربعات لنظهر له أننا لسنا روبوتاً آخر. بعض المؤشرات مثل الذي ذكرناها سابقاً، قد تجعلنا نعتقد أن ريدلي سكوت كان على حق بفيلمه Blade Runner التي تدور أحداثه عام 2019. لذلك يجدر بنا أن نسأل تحت أي ظروف ثقافية وتكنولوجية سنحتفل بالمئوية الأولى لمدينة متروبوليس المستقبلية عام 2027؟

* «ميتريكس» على نتفليكس
* مسلسل Black Mirror على نتفليكس
* I Am Mother على نتفليكس