ليس نصّ المنفى وحده من جمع بين إدوارد سعيد (1935- 2003)، ومحمود درويش (1941- 2008) فوق قماشة واحدة. هناك اشتباك معرفي عميق بين التجربتين في تصدير صورة فلسطين إلى الآخر بوصفها هوية غير قابلة للمحو. يهدي محمود درويش قصيدته «طباق» إلى إدوارد سعيد، ملخّصاً تراجيديا الفلسطيني في تمزّقاته الذاتية، سواء كان تحت الاحتلال أم في الشتات: «ولستُ هناك، ولستُ هنا/ لي اسمانِ يلتقيان ويفترقان/ ولي لُغتان، نسيت بأيهما كنت أحلم».في أطروحتها «لستُ هناك، ولستُ هنا: تشكيلات هويَّة ما بعد الاستعمار في أعمال إدوارد سعيد ومحمود درويش» (دار نينوى ـــــ ترجمة عهد صبيحة) تسعى الباحثة الكويتية سعاد العنزي إلى الإحاطة بصورتَي هذين الصديقين بمرايا مختلفة، كي تصل إلى جوهر هذه العلاقة وأبعادها الإنسانية والثقافية، فهما يتبادلان الصدمة ذاتها حيال الذاكرة والإزاحة، وتجربة الشتات، وحلم العودة. وفي المقابل ينتميان إلى هويّة كونية تظهر بجلاء في أعمالهما. كما تظهر قوة سرديّتهما من ذلك المزج الخلّاق بين نثر إدوارد سعيد، وشعر محمود درويش. هكذا يتّكئ الأول على عبارة وردت في قصيدة للثاني لتصبح عنواناً لكتابه «ما بعد السماء الأخيرة: حيوات فلسطينية» (إلى أينَ نذهبُ بعد الحدودِ الأخيرة؟ أينَ تطيرُ العصافيرُ بعد السَّماءِ الأخيرة؟)، وفيه يحاول تنقية التاريخ الفلسطيني من الأوهام التوراتية، والتحريف المتعمّد لحقّ الفلسطيني في بلاده التاريخية، فيما يربط محمود درويش خسارة فلسطين بخسارة الأندلس بقصد تعميق «الإحساس التاريخي بالكارثة».
هكذا تتبع الباحثة الكويتية تمثّلات الهوية الذاتية في نصوص صاحب «الاستشراق»، وأشعار صاحب «سرير الغريبة»، فتجد في «خارج المكان: مذكرات» نوعاً من الهجنة الثقافية التي رافقت أعمال إدوارد سعيد وسرديات الاقتلاع من مكانٍ إلى آخر، وتفسير وتأثير معنى المنفى في «تأملات حول المنفى»، بينما يبث محمود درويش سيرته في نصوصه الشعرية، تبعاً لتطوّر عملية الإزاحة من فلسطين إلى خارجها، كما في عمليه النثريَّين «ذاكرة للنسيان»، و«يوميات الحزن العادي». من جهته، لا يكتفي إدوارد سعيد بالنصوص المكتوبة لتعميق هويته بالمكان وتوثيقه، إنما يلجأ إلى الفوتوغرافيا في رواية القصص، كما في «بعد السماء الأخيرة». وهو بذلك يقدّم فحصاً تفصيلياً وذاتياً لحيوات الفلسطينيين باستخدام مناهج متنوعة، وإشارة إلى لحظة التقاط الصورة كوثيقة دامغة على الواقع المعاصر للفلسطينيين من زاوية جديدة وملهِمة. وتالياً فإن الجمع بين الصور الفوتوغرافيَّة والعمل المكتوب «من أجل قول شيء لم يُقَل عن فلسطين»، ويلخص المشهدية العامة لوضع الفلسطينيين بقوله «منفيُّون في الداخل، كما هم منفيُّون في الخارج». وبخصوص «خارج المكان»، تشير سعاد العنزي إلى أن هذه المذكرات «هي أكثر من مجرَّد ذكريات شخصيَّة لمثقَّف، بل تبدو أنَّها انعكاس واضح للأزمنة التي عاشها والأماكن التي عاش فيها، وذكرياته عن الأقارب والأصدقاء». وفي «تأملات في المنفى»، يميّز إدوارد سعيد بين المنفيِّين والمهاجرين واللاجئين والمشرَّدين، مشيراً إلى المنظِّرين والكتَّاب المنفيِّين الآخرين مثل تيودور أدورنو ومحمود درويش بقوله: «ينظر المنفيُّون إلى غير المنفيِّين باستياء. تشعر بأنَّهم ينتمون إلى محيطهم، في حين أنَّ المنفى دائماً ما يكون خارج المكان. ماذا يعني أن تولد في مكان، تبقى وتعيش فيه، وتعرف أنَّك منه، إلى حدٍّ ما إلى الأبد؟». ويختبر محمود درويش مشاعر المنفى بقصائد تنطوي على مشاعر «الوحدة والإحباط وخيبة الأمل»، لكنه في مرحلة لاحقة سيعتني بالذات الجمعية، وبمنافي الآخرين: «فكِّرْ في غيركَ/ مَن فَقَدُوا حقَّهم في الكلام». على المقلب الآخر، تواكب صاحبة «نساء في غرفة فرجينيا وولف« الروابط المشتركة بين تجربتي محمود درويش وإدوارد سعيد، إذ يستعير الأول أسلوب صديقه في الطباق، في مرثيته «طباق إلى إدوارد سعيد»، فيما يمارس الأخير مفهوم «الأسلوب المتأخر» في قراءة شعر درويش الذي «يعيد تشكيل الأنواع، ويتحدَّى الهياكل النظريَّة، ويكسر الحدود». لن نجد صورة نهائية للصديقين، سواء في اللغة الأم أم في اللغات الأخرى، إذ تتناوب عشرات القراءات في مقارباتهما للهوية. بخصوص المفكر الفلسطيني، تركّز الدراسات المتعلّقة بمنجزه النقدي على «ربط النظريَّة بالممارسة في حياته الشخصيَّة»، فالمنفى هنا «ليس مجرَّد مسافة ماديَّة بين المثقَّف ومنزله، بل كمسافة بين الذات، ومجموعة من القناعات والمنطلقات التي يمكن أن تمنعَ العلماء من الانخراط في القضايا على نحو موضوعيٍّ». يمكننا أن نشير في هذا السياق إلى كتابات جوزيف مسعد، وفريال غزول، وفيصل درّاج، وناديا جندي. تسجّل الأخيرة انطباعاتها عن مذكراته بقولها: «الذين عرفوا إدوارد منذ طفولته يوافقون على أنَّ خارج المكان يعكس شخصيَّته: عاصف، قويٌّ، صريح بلا هوادة إلى درجة الوقاحة، قلق باستمرار، مسرحيٌّ ومضحك جدّاً على الدوام».
لم يمثِّل محمود درويش الهويَّة الفلسطينيَّة فحسب، بل سلَّط الضوء أيضاً على تجربة إنسانيَّة عالميَّة


ويبدو الأمر أكثر تعقيداً في تشريح شخصية محمود درويش، فهو، وفقاً لما تقوله سلمى الخضراء الجيوسي، لم يمثِّل الهويَّة الفلسطينيَّة فحسب، بل سلَّط الضوء أيضاً على تجربة إنسانيَّة عالميَّة. كما تضيء على أهميَّة المنفى في عمله، وتخلص إلى أنَّ هشاشة الشعر كشكل من أشكال الفنِّ، هي ما تسمح له بتوفير «مساحة من القدرة لمن تمَّ إسكاتهم تاريخيّاً». ويعتني آخرون بجغرافيَّة شعره التي «لا تهتمُّ فقط بجغرافيَّة فلسطين فحسب، بل بالأحرى يتعامل مع ما يمكن تسميته بجغرافيَّة البشريَّة، وهي سمة تتجلَّى على نحو خاصّ في مجموعاته الشعرية المتأخِّرة». هكذا يمزج الشَّاعر بين الأسطورة والتاريخ كي يبيِّن أنَّ فلسطينَ هي ملتقى ثقافات وأساطير وتواريخ توحِّد الأرض في القصيدة وتفتحها على التسامح، أكثر من أيِّ وقت مضى.
هذه الهوية الهجينة والمتصدعة، استدعت محمود درويش لأن يتمسّك باسمه الشخصي، إذ يردّد في «جدارية» بعد تجربة قاسية مع المرض «هذا الاسم لي»، إذ لطالما كانت حياته كدائرة مستمرَّة من تذكُّر الألم والحرمان واليتم والندم والنفي، فيما يستعيد إدوارد سعيد علاقته باسمه وهويته قائلاً: «على مدى سنوات، وبالاعتماد على الظروف الدقيقة، كنتُ أسارع إلى تجاوز اسم «إدوارد» وأشدِّد على اسم «سعيد». وفي أوقات أخرى كنتُ أفعل العكس، أو كنتُ أصل الاسمين معاً كي لا يكون أيٌّ منهما واضحاً». ويضيف: «لقد استغرقني الاعتياد على «إدوارد» زهاء الخمسين عاماً، أو على نحو أكثر دقَّة، كي أشعر على نحو أقلّ بعدم الارتياح معه، اسم إنكليزيّ أحمق مرتبط باسم أسرة سعيد العربيِّ على نحو لا لبس فيه».
عدا رمزية الاسم الشخصي، كانت اللغة هوية أخرى، فهي لدى درويش «لغتي ومعجزتي. عصا سحري/ حدائق بابلي ومسلّتي، وهويّتي الأولى، ومعدني الصقيل»، و«أخاف على لغتي فاتركوا كُلَّ شيءٍ على حالِهِ و أَعيدوا الحياةَ إلى لُغتي». يشير إدوارد سعيد إلى ازدواجية لغته بقوله: «لطالما كانت الاثنتان معاً في حياتي، يتردَّد صدى إحداهما في الأخرى، على نحو ساخر في بعض الأحيان، وعلى نحو يتعلَّق بالحنين إلى الماضي في أحيان أخرى، وغالباً ما تصحِّح كلٌّ منهما وتوثِّق الأخرى».
وكأن المسافة بين المنفى و العودة إلى المنزل لا تكتمل إلا بثلاث مفردات: الاسم واللغة والذاكرة كسردية متماسكة غير قابلة للزوال.