لم تكَد ساعات تمرّ على إعلان إعادة العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية بمباركة صينية، حتى تصدّر الخبر عناوين نشرات الأخبار المحلية والإقليمية والعالمية وأخذ الحيّز الأهمّ، مع استثناءات بالنسبة إلى وسائل الإعلام السعودية التي تعاطت معه كخبر عادي، من دون تفصيل وتحليل كما فعلت الوسائل الأخرى بما فيها الإيرانية. هكذا مثلاً، اكتفت قناة «العربية» السعودية بإلقاء فحوى البيان من دون أيّ تعديلات ولو طفيفة، في ما يبدو أنّه محاولة بثّ رسالة إيجابية من المملكة حول تخفيف الحملات الإعلامية على إيران والتي كانت رأس الحربة فيها «العربية» وأختها «الحدث».على الضفة اللبنانية، صوّرت القنوات ما حصل كأنّه اتفاق بين طرفَين لبنانيَّين، أي أنّها ضخّمت من شأنه واعتبرته بمثابة حلّ نهائي للأزمة الداخلية اللبنانية، لا كعامل مساعد فقط. هكذا، حاكت القنوات، على اختلافها، مقدّمات لنشراتها تبشّر فيها بالحلّ العتيد، ولو أنّ كلّاً منها أخذ ما يعنيه. قناة mtv على سبيل المثال، اعتبرت ما حصل «خطوة تاريخية» و«صفحة جديدة»، قبل أن تعود إلى نغمتها القديمة في محاولة منها ربّما لإظهار أنّها لم «تتأثّر» بالاتفاق ولن تحيد عن «القضية»، فسألت: «هل تخلّت إيران عن أحلامها التوسّعية؟». أمّا «الجديد» فأخذت في الاعتبار ما سيسبّبه الاتفاق من ضرر على الولايات المتحدة بشكل عام و«إسرائيل» ورئيس حكومتها بنيامين نتنياهو بشكل خاص.
بالنسبة إلى القنوات العالمية ولا سيّما الأوروبية، فقد مرّرت خبر الاتفاق بطريقة عادية ولو أنّها لم تنفِ عنه صفة «التاريخي». لكنّ اللافت كان إعطاء قناة RT الروسية، بنسختَيها العربية والإنكليزية، الأمرَ أهمّيةً وصلت إلى حدّ تصدّره نشرات أخبارها وصبغه باللون الأحمر الذي تتعمّد القناة استخدامه للأخبار المهمّة بالنسبة إليها ولو لم تعُد «عاجلة». القناة، ولا سيّما الناطقة بالإنكليزية، اعتادت منذ فترة أن تكون أخبارها الرئيسية متركّزة على الحرب الدائرة في أوكرانيا وتفكيك حرب المعلومات الغربية على روسيا، وخصوصاً مع احتدام المعارك في بعض المناطق أخيراً. لذا، قد يُفهم من طريقة تعاطي القناة هذه على أنّه ترحيب روسي بالخطوة الإيرانية السعودية الصينية، سيّما مع الأخذ في الاعتبار أنّ جزءاً من أهداف العملية العسكرية الروسية المعلنة هو «كسر أحادية الغرب في العالم» والاتجاه نحو عالم متعدّد الأقطاب، وبذلك فإنّ الاتفاق بنظر روسيا يقرّب من هذا الهدف.
ردّة الفعل السلبية الوحيدة كانت من الإعلام العبري. اعتبرت وسائل إعلام الكيان الصهيوني ما حصل ضرراً على الكيان يشكّل خطراً على أمنه، فيما الوسائل المعارضة لنتنياهو الذي يواجه احتجاجات داخلية ضدّ حكومته المتطرفة كما عمليّات المقاومين الفلسطينيّين، راحت تلومه على ما حصل وتتّهمه بالفشل سياسياً واقتصادياً وأمنياً. حتى وسائل الإعلام الأميركية لم تظهر أيّ امتعاض من الاتفاق، تماشياً مع الموقف الأميركي الرسمي الذي «رحّب» به.
اعتبرت القنوات اللبنانية الاتفاق بمثابة حلّ نهائي للأزمة الداخلية!


وكما هي العادة عند أيّ حدث كبير، كان الاتفاق مناسبة لبثّ الأخبار الكاذبة والمضلّلة، فادّعى بعض الصفحات على مواقع التواصل مثلاً أنّ الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله قال إنّ السعودية قوّة إقليمية تقود المنطقة، وإنّ قائد جماعة أنصار الله اليمنية عبد الملك الحوثي قال إنّ «السعودية إخوتنا ونحن أبناء أمّة واحدة والحرب سببها أميركا وإسرائيل»، فيما لم يقم أيّ من الرجلَين بتصريح مماثل. كأنّ ذلك لم يكفِ. قرّرت صفحات أخرى المزايدة في التضليل، وشاركها فيه لبنانيون من خصوم «حزب الله» على مواقع التواصل، فأضافوا على الادّعاء السابق «شمّاعة» أنّ نصرالله قال الإثنين «مَن ينتظر تسوية إيرانية سعودية، سينتظر طويلاً» قبل أن يتراجع (بحسبهم) الجمعة (يوم إعلان الاتفاق) لقول التعبير المذكور آنفاً حول السعودية. بمجرّد الرجوع إلى الخطابَين، يتبيّن أن ليس هناك من تناقض، وأنّ السيد نصرالله في الخطاب الأوّل كان يتحدّث عن الاستحقاق الرئاسي في لبنان فقال حرفياً: «من ينتظر تسوية إيرانية سعودية سينتظر طويلاً، لأنّ المشكلة هنا ليست موضوع العلاقات الثنائية، فهذه حلّوها عندما اجتمعوا في بغداد من أوّل جلسة وثاني جلسة. المشكلة تتعلّق بالوضع الإقليمي وبوضع اليمن، واليمن حلّه ليس عند إيران ولا لبنان ولا حزب الله، بل عند اليمنيّين»، قبل أن يضيف: «تعالوا لأن نعطي هذا الاستحقاق (الرئاسي) البعد الداخلي الوطني»، وهو ما كرّره في خطاب يوم الجمعة حين دعا إلى «عدم انتظار الخارج، ولا يحقّ لأي دولة خارجية أن تفرض أيّ فيتو في ما يتعلق بالاستحقاق الرئاسي». لكن في عصر يتمّ فيه تقصير مدّة الانتباه عمداً، يصبح الاجتزاء هو الحكم.