من منا لا يحبّ روكي بالبوا؟ هذا الحب لم يأت فقط لأنّ «روكي» كان حلم ومشروع عمر سيلفستر ستالون الذي حدّد بمفرده تقريباً خصائص الدراما الرياضية الحديثة. وليس فقط لأن السلسلة كانت ناجحة وتطورت بشكل جيد حتى مع أجزائها الأقل نجاحاً، بل لأنّ هذه السلسلة كانت دوماً تدور وتتمحور حول العواطف قبل أي شيء. روكي هو ذلك الرجل المستضعف صاحب الفرص المحدودة الذي يقاتل ويكافح بشجاعة وبمجهوده يحقّق النجاح والشهرة. هو شخص لطيف طيب في جميع مناحي الحياة، ورغم منظره الخشن الشرس، هو النقيض التام لذلك. إنه شخص منفتح على الجميع، ويهتم بصدق بكل من يتحدث إليهم. شخص نتعاطف ونتماهى معه، يحب روكي أن يقص الحكايات لزبائنه في مطعمه، إنه صادق ووفي. روكي كشخص لا يمثل الفوز والانتصار. العديد من أفلام روكي تنتهي بالهزيمة، ولكن الهدف هو أن يتفوّق روكي على ما يُتوقع منه. الأمر إذاً لا يتطلب الفوز بالحزام الذهبي، بل تحقيق أكثر مما كنا نتخيل. نحبّ نصائح روكي، رؤيته إلى الحياة وطبعاً جملته الشهيرة لحبيبته أدريان عن الملاكمة والحياة: «لست فاشلاً، لا يعنيني إذا خسرت، لا يهم أن يُحطم رأسي، كل ما أريده هو مواصلة الطريق إلى آخره، هذا كل شيء». إذاً، لا يتعلق الأمر بالأحزمة والبطولات وقصص النجاح الفارغة، ولكن بالعلاقات الإنسانية البسيطة والصادقة، والحب والصداقة والاحترام والتواضع. وطبعاً كانت رياضة الملاكمة هي التي ربطت كل شيء، وبفضلها لا تزال شخصية روكي قادرة على الاندماج في الواقع إلى اليوم. بشكل عام، لا تزال ملحمة «روكي» كلاسيكية ومؤثّرة. وعلى الرغم من أنها لا تخلو من العيوب، إلا أن شخصياتها الجذابة والموسيقى التصويرية التي لا تنسى والقصة بحد ذاتها تجعلنا لا نملّ مشاهدتها.
لا أحد يستطيع أن يصنع فيلم رياضة درامياً مثل سيلفستر ستالون

بعد ستة أجزاء من عام 1976 إلى عام 2006، انتقلت ملحمة روكي عام 2016 في اتجاه جديد. شخصية روكي كانت لا تزال موجودة، انضم إليها أدونيس كريد (مايكل بي جوردان) ابن منافس روكي السابق ثم صديقه الحميم أبولو كريد (كارل ويذرز). عام 2016، بدأنا مع «كريد» سلسلة جديدة منبثقة من سلسلة أفلام روكي. كان «كريد» قادراً على أن يكون دراما رياضية حديثة متطلبة ومخصّصة مع موسيقى الهيب هوب والراب مع أداء جيد لمايكل بي جوردان الصاعد، والحفاظ على كل شيء تقريباً جعل أفلام «روكي» محبوبة. أحببنا الجزء الأول، وخصوصاً أنّ روكي موجود وأصبح كأب ومدرب لهذا النجم الصاعد. في الجزء الثاني «كريد 2» (2018)، لم يتغير الكثير وظل الفيلم ناجحاً بشكل كبير بوجود ستالون نفسه على الشاشة. الجزء الجديد من هذه السلسلة وصل. نضجت قصة «كريد 3»، لكنّ الفيلم الجديد هو بمثابة ضربة قاضية في الهواء. أول ما نفتقده في «كريد 3» هو غياب روكي، ليس فقط على الشاشة، إنما لا يوجد حتى ذكر لاسم أدونيس كريد. لا يزال سيلفستر ستالون أحد المنتجين، لكنّ روكي هو الشخص المغيب. طوال ساعتين يحرص فيها الفيلم على عدم تضمين أي إشارة واحدة إليه. حزر ستالون عند بدء التصوير أنه لن يكون موجوداً لأن الفيلم يتخذ منعطفاً بعيداً عما يراه هو، ويبتعد عن الرياضة أكثر ليصبح دراما عائلية مظلمة. وقال: «لا أعرف ما إذا كان سيكون هناك دور لي، لأن الممثل ومخرج الفيلم مايكل بي جوردان والمنتج إيرون وينكلر يبحثان عن اتجاهات جديدة للقصة».
«كريد 3» هو حفلة شواء من دون لحم، ولمّ شمل عائلي من دون ربّ الأسرة، وفيلم ملاكمة فارغ والسبب ليس فقط غياب ستالون. يتناول الفيلم قصة وشخصية أدونيس كريد ويفصلها تماماً عما بناه ستالون مع «روكي». بعد تقاعده من مهنة الملاكمة المحترفة، وبعد عدة انتصارات وبطولات، يعمل أدونيس كريد كمروّج لرياضة الملاكمة ويرعى المواهب الجديدة ويدعمها، ويفتتح أكاديمية للملاكمة خاصة به، كما أنه أصبح ربّ أسرة صغيرة. ولكن هذا كله لن يستمر، فالماضي لن يسمح بذلك، يظهر صديق الطفولة الذي يدين أدونيس كثيراً له. أمضى داميان أندرسون (جوناثان ماجورز) سنوات طويلة خلف القضبان، بسبب غلطة صغيرة في ليلة كان أدونيس الصغير شاهداً عليها. تم إطلاق سراحه، ودايم لديه رغبة في أن يكون الملاكم الأول في العالم. ولهذا، يطلب المساعدة من أدونيس، الذي يساعده في تحقيق حلمه. ولكن الغضب والغش والأحقاد الدفينة تجلب الصديقين إلى الحلبة لمواجهة أحدهما الآخر وطيّ صفحة الماضي.


الفيلم رحلة إلى الماضي متخفّية ببداية جديدة، لا يسعه إلا الوقوع في حفرة حفرها بنفسه. مع «كريد 3»، تمكّن أدونيس كريد أن يصبح مستقلاً، ولكن في فيلم دراما رياضي لا يختلف أبداً عن أي فيلم آخر من النوع نفسه. لا يجلب هيكل الفيلم أي مفاجآت، كل شيء يسير بشكل تقليدي، ماض يتشابك مع الحاضر، أحقاد وغيرة ثم معارك في الحلبة، الصراع الكلاسيكي بين الخير والشر، وهيا بنا إلى الجزء الرابع. يركز الفيلم على الجانب النفسي والدرامي لأدونيس، الذي يسأل نفسه: من أنا؟ نوع من الشكوك الشخصية والعائلية التي يأخذها المخرج كثيراً على محمل الجد، إلى درجة أنّ الفيلم ينتهي بمشهد عائلي، على الرغم من أننا نشاهد فيلم ملاكمة يجب أن نخرج منه وفي داخلنا كمية كبيرة من الأدرينالين تحثنا على لكم أي شخص في طريقنا. الفيلم مجرد شريط رياضي مريح للغاية ومكتوب بشكل كسول، يعيد تسخين قصص كثيرة ولكنه غير قادر على استخراج درما ملحوظة. لذلك يضيع الجانب الإنساني من القصة، إلى درجة أنّ المخرج يقدم محاولة فجّة لتجسيد الحالة العاطفية للمقاتلين باستعارة بصرية مبسّطة. حتى مشاهد القتال، التي لا تحتل الكثير من وقت الفيلم، بدت زائفة بسبب المراهنة والإفراط في استخدام المؤثرات الخاصة.
لنكن صريحين، من دون روكي بالبوا، فإن «كريد 3» هو مجرد فيلم ملاكمة آخر، يسير جنب الحائط ولا يخرج من منطقة راحته. والنتيجة، فيلم بدون أي مفاجآت أو مشاركة عاطفية حقيقة. على الرغم من أن الفيلم كان يجب أن يعالج غياب روكي، إلا أنه لا يزال من غير الواضح أنه سيكون ناجحاً من دونه. سبب نجاح أفلام «روكي» هو هذه العلاقة الحميمية بين البطل والجمهور والمشاهد، وهذه العلاقة مفقودة تماماً في الفيلم الجديد. «كريد 3» ليس فيلماً سيئاً جداً، لا يستدعي النقد الحاد ولا حتى التصفيق، إنه في أحسن الأحوال نتيجة غير ضرورية لفيلمين سابقين جيدين ومسلّيين. «كريد 3» لا يزال قادراً على تخطي اللكمات الموجّهة إليه، لكنه اليوم محشور بين الحبال يحاول النجاة. في النهاية، على الرغم من نجاح الفيلمين الأولين وتخبط الفيلم الجديد، إلا أن لا أحد يستطيع أن يصنع فيلم رياضة درامياً مثل سيلفستر ستالون، ولا أحد يعرف كيف يلاكم إلا روكي ببزّته الرثّة وهو يلكم الأبقار المتدلية في المسلخ.

Creed III في الصالات