معرضٌ استعاديٌّ تحتضنه «دار النمر للفن والثقافة» حتى 13 أيار (مايو ) تحت عنوان «مشوار فنان من فلسطين/ حوار بين جيلَيْن: مارون طنب (1911- 1981)، وفؤاد طنب» من تنظيم «مؤسسة فؤاد ومي طنب للفنون» وبمساعدة من الباحث مازن قبطي. قُسّم المعرض إلى أربعة أجزاء أبرزها للفنان الراحل مارون طنب المولود في حيفا، الذي تمرّس فنّياً لدى الفنانيْن هيرمان شتروك وباول كونراد هونيخ. وتزامن المعرض الأخير الذي أقامه في حيفا مع وضع الأمم المتحدة الخطّة المشؤومة لتقسيم فلسطين، قبل أن يهجر وطنه السليب عام 1948، ليستقرّ في لبنان حتى وفاته عام 1981، وعرض أعماله في أبرز غاليريهات بيروت. في المعرض الاستعاديّ اليوم، نقف أمام لوحات للفنان مارون طنب تنتمي إلى المرحلة الفلسطينية، وإلى جانبها لوحات ابنه فؤاد الذي يحاكي أعمال والده بشبه تجريد ملوّن، ليمسي المعرض حواراً بين جيلين داخل خمس قاعات في «دار النمر». علماً أنّ للبنان حصّة في المعرض من خلال لوحات زيتيّة استوحاها الفنان الراحل من طبيعة لبنان وقراه. يبدو المعرض لزوّاره متحفاً مصغّراً لعالم مارون طنب التشكيلي ومسار حياته. في سيرته ما هو بعيد عن الفن والرسم، إذ التحق عام 1949 بشركة نفط العراق في طرابلس رئيساً للقسم الفني فيها، ورسم وكتب لمجلة «أهل النفط». في عام 1954، قدّم لوحات له في «صالون الربيع» الذي رعته «وزارة التربية الوطنية والفنون الجميلة» (هكذا كان اسمها آنذاك) في قصر الأونيسكو في بيروت. وفي عام 1957، انضمّ طنب إلى نقابة الرسامين والنحاتين اللبنانيين ليفتتح من ثمّ مكتبه للتصميم الغرافيكي في بيروت عام 1965. نشاهد في المعرض القصاصات الورقية لأولى رسومه في فلسطين، وننتقل إلى البورتريهات التي أنجزها لأبنائه وبناته في مراحل مختلفة من أعمارهم. ونتحدّث هنا عن المشهورات لدينا في عالم الغناء فاديا وآمال ورونزا، وأخويهنّ سمير وفؤاد. وفي زاوية أخرى من المعرض حوار الريشة بين الأب مارون والابن فؤاد، وإلى ركن آخر ضمن المساحة الواسعة حيث تُبْهِجنا مناظر لبنان الطبيعيّة في الفصول المتنوّعة، حتى نصل إلى عرض ضوئي للمقالات التي كتبها طنب الأب لمجلة «أهل النفط»، ورسالة لصديق يدعى جاك.
عالم مارون طنب موزّع على ذاكرتين، أولى فلسطينية وثانية لبنانية، وكلتاهما طبعتا هويته الفنية ووجدانه الانتمائيّ. هو ينتمي إلى فلسطين وطن مولده ونشأته وشبابه، بقدر ما ينتمي إلى لبنان وطنه الثاني البديل. وطن أولاده الذين لم يعرفوا وطن أبيهم الأول. بذلك، يغدو المعرض حواراً فعلياً بين جيلين ووطنين وهويتين، لكن بالنسبة إليه، بقدر ما ينطوي الأمر على مأساة عنوانها ضياع فلسطين الوطن الأم، يشكل بالقدر نفسه ميزة غنىً فنّي، إذ رسم جمالات البلدين سواسيةً، متأثّراً بالطبيعة والوجوه والعادات والتقاليد، ورسومه موزّعة في أيّ حال عليها كلّها، إذ افتتن بالوجه (البورتريه) مثلما أسرته المناظر الطبيعية، فضلاً عن المواقع الأثرية (بعلبك وبيت الدين)، والطبيعة الجامدة (ورود وأزهار في مزهريات، فاكهة على المائدة، ركوة قهوة وفناجين فوق صينية…)، كما رسم حصاناً أبيض راكضاً في لوحة ذات مقاس كبير. هو إذاً متنوّع المواضيع، وبموادّ مختلفة من الرصاص والحبر إلى الزيت والأكريليك، وبين الأسود والأبيض والملوّن. فهذا الفنّان البارع الذي ولد في حيّ الزَّورة في مدينة حيفا التي بقي فيها حتى عام 1936 تاريخ وفاة والده الياس، انتقل مع العائلة للعيش في حي وادي النِّسناس، والتحق بالمعهد الإيطالي للفنون التطبيقية حيث التقى بمُلهمِهِ الأوّل فنّياً الرسّام والنقّاش هيرمان شتروك، عضو أكاديمية برلين للفنون، فتمرّس في محترفه الذي تحوّل اليوم إلى متحف. وعقب وفاة شتروك عام 1944، التحق مارون بمحترف معلّمه الثاني النمسَويّ باول كونراد هونيخ، فتعلّم الرسم بالزيت والحبر الصيني، لكنّه أظهر براعة في الرسم المائيّ. يذكر هنا أنّ الأبحاث التي قامت بها «مؤسسة فؤاد ومي طنب للفنون» بالتعاون مع الباحث الفلسطيني مازن قبطي، أدّت إلى العثور على نحو عشرين عملاً لمارون طنب، منفّذةً بتقنية النقش الحمضيّ المستخدمة كوسيلة طباعيّة على الورق منذ القرن الخامس عشر. خلال فترة تمرّسه لدى هونيخ، ارتبط طنب بصداقة مع زميله الفنان جاك، وتراسلا بانتظام قبل أن ترغمهما التطوّرات السياسية على الانفصال. وثمة رسم تخطيطي لطنب أنجزه زميل آخر له في محترف شتروك ويدعى مانفريد نومبورغ، وفيه استكمال لصورة حيفا قبل التقسيم.
عالمه موزّع على ذاكرتين وكلتاهما طبعتا هويته الفنية ووجدانه الانتمائيّ


يمكن وصف أعمال مارون طنب بأنّها «رعوية» (pastoral) لفرط نقائها وصفائها وبساطتها، لذا كان فنّه دوماً مفهوماً من الجميع، محبوباً ومقدّراً من متابعي معارضه، علماً أنّ لوحاته التي يتضمّنها معرض «دار النمر» الاستعاديّ جُمعت من مصادر متعدّدة، وبعضها من جدران منازل مقتني لوحاته ومن وزارة الثقافة و«غاليري جانين ربيز» ومن أبنائه.
وُصف مارون طنب بـ«شاعر الطبيعة» فمائيّاته مزهرة كالربيع، وحبريّاته دقيقة مطرّزة بيد ماهرة، وفي زيتيّاته ألوان مبهجة مليئة شعاعاً ونوراً. الأُلفة والودّ والحنان تسري في عروق المتأمّل في لوحات مارون طنب. في لوحاته اندماج روحانيّ مع الطبيعة والأرض. سمفونية أحاسيس من نوتات المنظر الريفيّ ووجوه الناس. إرث فنّي كبير، طاهر ونقيّ، متقن واحترافيّ، تركه مارون طنب الذي يستحقّ معرضه الاستعاديّ هذا زيارة للتذكّر والاكتشاف.

* معرض «مشوار دروب فنان من فلسطين | حوار بين جيلَين: مارون وفؤاد طنب»: حتى 13 أيار (مايو) ــــ «دار النمر للفن والثقافة» (شارع أميركا ــ كليمنصو/ بيروت). للاستعلام: 01/367013