رائد حداثة، حرّر الحرف العربيّ من قيود اللغة ومعانيها المباشرة لبناء لغة بصريّة عالميّة وفنّ قائم بذاته، جامعاً الخطّ إلى الفنّ الزخرفيّ بأسلوبه الخاص ذي التراكيب الهندسيّة. الخطّ يسمو لديه ليغدو لائقاً بالوحي الصوفيّ ورؤية ما يستغلق على الرؤية، مطلقاً على أحد معارضه عنوان «في غياب المعنى وحضور المعاني»، مستلهماً قول أبي حيان التوحيدي «رُبّ إشارة أبلغ من لفظ»، وآيباً دوماً، رغم حداثته، إلى الفترة التأسيسيّة الأولى في فنّ الحرف، أي إلى الخطّ الكوفيّ، وإلى ابن مقلة وابن البواب وياقوت المستعصمي وآخرين كثر. أقام سمير الصايغ (1945) جسراً بين التراث والحداثة التي ولج عمقها بتجريديّته وغوصه في ازدواجيّة ‏المعنى والشكل في الخطّ العربي وإمكاناته الجماليّة والتعبيريّة، فكان قريباً من تجريديّات الروسيّ فاسيلي كاندينسكي والألمانيّ بول كْليه. أمّا المسألة الجماليّة، فترتكز لديه إلى كون الحروف كائنات حيّة، اهتداءً بفلسفة ابن عربي. والجمالية أولويّة مطلقة لديه، إلى جانب ما استغلق من المعاني، فالروح بالنسبة إليه أهمّ من الشكل والقواعد والخبرات والقدرات، ولا تكرار في الزخرفات الخطيّة، بل تأثير شكليّ مختلف. في عُرْفِهِ، ‏الحرف العربيّ رمز ومصطلح وشكل واحتمال، وثمة علاقة مثيرة بين الحرف والمرأة لديه، فهو القائل إنّ الصفات الجمالية للحروف مستوحاة من المرأة، فإذا كان الحرف دقيقاً فهو كدقّة الأهداب. وإذا كان متّسعاً فهو كاتّساع العيون، وإذا كان رقيقاً أو مائلاً فهو كالخصر. يؤكّد على أنّ الجمالية تنجم بالنسبة إليه عن التعقيد لا عن التبسيط، وعن تعدّد المعنى الواحد. ومن هنا كان عنوان معرض آخر له عام 2016 بعنوان «ألف بحروف كثيرة» (اقتفاءً لعنوان أحد مؤلّفات كمال الصليبي «بيت بمنازل كثيرة»).إلى فنّ الحرف، طرق سمير الصايغ باب الشعر بديوانَيه «مقام القوس وأحوال السهم» (1980) و«مذكرات الحروف» (2003). زاول النقد منذ أواخر الستينيّات في صحف ودوريات متعدّدة من «لسان الحال» (1968- 1970) إلى «الأنوار» (1970-1980) و«مواقف» (1969-1985) و«الكفاح العربيّ» (1982-1990) و«فنون عربيّة» (1978-1982) و«فنّ» (1989-1991). هو خرّيج المعهد الوطنيّ العالي للفنون الجميلة في باريس. كما حاضر في الجامعة الأميركية في بيروت (قسم الفنون الغرافيكيّة)، وأصدر العديد من الأعمال حول الشعر الصوفيّ والفنّ الإسلاميّ، إلى الكثير من الدراسات في الفن العربيّ المعاصر وعلم الجمال. التقيناه في هذا الحوار:


خُضتَ تجربة شعريّة إلى جانب تجربتك التشكيليّة
- أصدرتُ ديوانين شعريّين. نشرت معظم قصائد «مقام القوس وأحوال السهم» في مجلة «مواقف» التي كانت تصدر بإشراف أدونيس. كانت المجلّة في رأي سائر النّقاد والكتّاب مختلفة عن السائد آنذاك في الشعر الحديث. فالقصائد ‏المنشورة فيها تدور حول أسئلة وتأمّلات صوفيّة غير منتمية إلى الفرق الصوفيّة لناحية ممارسة الطقوس. ديواني هذا نابع من الأفكار والأسئلة الكبرى حول الوجود وحضور الإنسان في هذا الكون، استناداً إلى الأفكار الصوفيّة القائمة على وحدة الوجود. ‏الفكرة هذه كانت تلتقي مع الحداثة الشعريّة، ومع التيّار الحداثيّ الذي نشأ عالمياً في القرن التاسع عشر مع انفتاح أوروبا على الحضارات الأخرى وعلى التنوّع الثقافيّ خارج الحضارة الأوروبية. لذا اقرّوا بالوحدة بين الفنون، حتى تلك الآتية من اليابان والصين وأفريقيا والشرق العربيّ، فرأينا بول كْليه مسافراً إلى تونس حيث أعجب بالخط العربيّ، وماتيس زائراً المغرب حيث افتتن بالزخرفة العربيّة، فيما أعجب كاندينسكي بالأيقونات البيزنطيّة، وجياكوميتي بالنحت المصري فاستلهمه. كذلك الفنانون الذين ذهبوا من عندنا إلى أوروبا، أمثال سلوى روضة شقير وحليم جرداق، جذبتهم هناك الحداثة الغربيّة ولم يشعروا بغربة عنها. أمّا أنا، فتوقفت عن كتابة ‏الشعر بعد انتهاء الحرب الأهلية، إذ شعرت بأننا خسرنا الحداثة في تلك الفترة، وبأنّ الصراع بين الشرق والغرب ومختلف الثقافات والمشاريع الثقافية عاد إلى سابق عهده. لكنّني عدت بعد فترة لأنصرف مجدّداً إلى الخطّ، ومنه عاودتُ كتابة الشعر إنّما عبر الخطّ، فأصدرت ديواني الثاني «مذكّرات الحروف»، تلاه «ألف بحروف كثيرة» الذي لم يعرف طريقه إلى دور النشر ولم يوزّع في المكتبات، فأصدرت طبعات خاصة رافقت معارضي مثل «مذكرات الحروف» الذي كان عنوان معرض لي. انقطع في الحقيقة التواصل مع الجمهور في لبنان، وفي كلّ العالم العربيّ، ‏وحتّى عالميّاً. نشهد نوعاً من الاضمحلال في الحركة الشعريّة وفي الحركة الفنّية، أو موتاً سريريّاً وحالة من الخسارة. الفترة بين الثلاثينيّات والتسعينيّات هي التي أنتجت ثقافة منطقتنا، بخاصة في لبنان حيث ازدهرت حركتان، شعريّة وفنّية لا مثيل لهما. وإذا لم تستطع هذه الحركة إعادة خلق نفسها من خلال جيل مبدع جديد، فلن نلحق بالإبداع العالميّ

زاولتَ الصحافة والنقد ثم تخلّيت عنهما، ماذا تعني الصحافة للفنان؟
ــــ بعد هزيمة 67، أضحى لدينا جيل جديد واعٍ من الشباب وذو عزيمة ونشاط كبير للتغيير الذي كان شعارنا فضلاً عن شعار الحرية. كان هناك آنذاك نقد ذاتيّ طبّقناه بأسلوب عفويّ وحماسيّ من خلال الانضمام إلى مختلف محاولات التصحيح والثورة والتغيير، بما في ذلك التغيير على الصعيدين الأدبيّ والفنيّ. تبنّينا الشعر الحديث وقصيدة النثر. في تلك الفترة، كانت الحداثة ذات نشاط كبير مع الذين سبقونا وعاصرناهم أمثال أدونيس وأنسي الحاج ويوسف الخال، وعملتُ مع أدونيس في جريدة «لسان الحال»، ثم انتقلتُ إلى «الأنوار» التي خلقت فيها صفحات ثقافية. لم يكن ذلك مجرّد مشروع ثقافيّ بل كان مشروعاً نهضوياً للبلد. كنّا مؤمنين بالحداثة ‏وبكونها تحوّلاً عالميّاً وانتصاراً للإنسان الجديد. بقيتُ أعمل في الصحافة ناقداً فنّياً أو مسرحيّاً حتى التسعينيّات قبل أن أنتقل إلى التعليم. أمّا اليوم فأنا متفرّغ للفن.

شارع الحمراء في بيروت كان شارع الثقافة والمثقفين، كيف تنظر إلى واقعه اليوم؟
ــ ‏كان شارع الحمراء يمثل نموذج الحداثة الفعلية بكامل معانيها. كان يضمّ تنوّعاً طائفيّاً وثقافياً بالمفهوم الحضاريّ الحديث. اتخذ من المدن الثقافية ال كبرى، مثل باريس وروما، مفهوم المقهى الثقافي. عدا ذلك، تمركزت في شارع الحمراء المسارح ودور السينما والمكتبات ودور النشر. موضوع ثقافي كلّ عشرة أمتار، من دون ننسى الجامعتين ‏الأميركية واللبنانية- الأميركية. شارع الحمراء كان ملتقى اللبنانيين والعرب والأجانب. فهل بقي هذا الواقع قائماً إلى اليوم؟

بمَ ‏تميّزت مجلّة «مواقف» عن مجلّة «شعر»؟
- ‏انفتحت «مواقف» أكثر من «شعر» على التغيير و الأفكار السياسيّة والفلسفيّة والنظريّة عامةً، كذلك على القصة والمسرح والفنون التشكيليّة، وهذه الأخيرة كنتُ أكثر المهتمّين بها. نشرت، مثلاً، مسرحيّة كاملة لسعدالله ونّوس. ونشرت الحوارات الطويلة التي أسهمتُ فيها مجرياً حوارات مع نجيب محفوظ ويوسف إدريس وبول غيراغوسيان، وكان مع هذا الأخير الحوار الأوّل في مجال الفن التشكيليّ. ثم انتقلت المجلة بعد حرب السنتين إلى باريس ومكثتُ أنا في بيروت ولم أعد مساهماً فيها.

تخلّيتَ إذاً عن كلّ هذه التجارب وانصرفتَ إلى فنّك الحروفيّ. كيف تصف العلاقة بين الحروفيّة والفن التشكيليّ؟
- ‏أشكركِ على هذا السؤال المهمّ، فتسمية الحروفية «مخربطة» قليلاً إذ اشتغلتُ في النقد وأستطيع إيضاح المسألة. فالفنانون التشكيليون ارتكزوا على تراث فنيّ عالميّ وعلى حداثة أوروبيّة، فيما استعانت الحروفيّة بتراث الخطّ العربيّ والزخرفة العربيّة وأدخلتهما إلى أساليب الحداثة. بحثتُ منذ البداية في هذا الموضوع وكان هناك قلق.

لِمَ القلق؟
- لأنّ الخطّ العربيّ فنّ ‏قائم بذاته، فلو تناولنا شكلاً من أشكال الحروف، حرف الكاف أو حرف الميم مثلاً، وضمّناه اللوحة بأسلوب فنّي، فقد نشوّه هذا الفنّ أو نحطّ من شأنه. تعمّقتُ منذ يفاعتي في العلاقة بين الفنّ والخطّ العربيّ ورأيتُ أن هذا الأخير قائم بذاته في تركيا وإيران، وحتى في برلين و روما ولندن. ينبغي العودة إلى جوهر هذا التراث السامي جداً الذي يمنح شكلاً لكلمة الوحي، والذي سرعان ما انتشرت جماليّاته في البيوت وعلى الأبواب والأواني…

‏هل كانت الحروفيّة تعويضاً لديك عن الرسم والشعر؟
-‏ منحتني في الحقيقة تفسيراً مختلفاً لأزمة الشعر الحديث التي أبصرتها قبل وقوعها. لم يعد أحد يقرأ شعراً. جوهر الشعر والخطّ واحد. إنّي أحمل القلم نفسه واستخدم الحبر ذاته. هناك كتبتُ شعراً وهنا أرسم خطّاً. لدى قدومي إلى الخطّ والحروفيّة كنتُ من أوائل محوّلي هذا الفن من الحرفية إلى اللوحة الفنيّة. أكّدتُ مرة جديدة أنّ الفنّان واحد، وأنّ الفن والإبداع هما واحد أيضاً.

كيف تحدّد العلاقة بين الأصالة والحداثة في الشعر؟
- ‏الحداثة الشعرية تنأى عن شعر التفعيلة كما لدى المتنبّي وشعراء الحقبة العبّاسية. فالشاعر الحديث يملك رؤية للإنسان والكون تحتاج إلى شكل شعريّ جديد مختلف عن شكل القصيدة التقليدية. السيّاب وخليل حاوي وأدونيس تركوا التفعيلة والقوافي في حركة ذهاب وإياب، فاعتمدوا شطراً طويلاً أو شطراً قصيراً، وكان لكلّ منهم بنية شعرية خاصة. أمّا أنا فانطلقتُ من ركائز فكرية تستمدّ معجمها من الأصالة والحداثة معاً. كانت الحداثة باباً أدخل من خلاله إلى عالم بيروت الثقافيّ، وأعترف بأنّني كنت آنذاك مأخوذاً بأمثال الحلّاج وتيّار دو شاردان، وكنت أعتبر الحداثة نوعاً من التصوّف الفنّي الحقيقيّ، إذا كانت حداثة تتجاوز حرفيّة النص الإبداعيّ أو الجماليّ على نحو ما فهمته المدارس الفنية قبل الثورة الحديثة في الفنون.
توقفت عن كتابة ‏الشعر بعد انتهاء الحرب الأهلية، إذ شعرت بأننا خسرنا الحداثة في تلك الفترة


هل يمكن اعتبار الحروفية التي اعتمدتها جزءاً من تلك الحداثة؟
- هي جزء من الحداثة ومن الأصالة معاً. لم أُبعد فنّ الخطّ عن قواعده الأصليّة. إنّه فنّ شكل بامتياز. مثلاً في الفن الكوفيّ زاوية قائمة هندسيّاً. كان هذا الفن ماثلاً في صحون بنيسابور وصحون القاهرة في الدولة الفاطميّة وفي الأندلس…

تنطلق الحروفيّة إذاً من الإرث القديم
- بلى، من جماليات الخطّ الكوفيّ في أفغانستان، ومن القاهرة، ومن قرطبة الأندلسيّة. إنّه مدى جغرافيّ واسع ومتنوّع ثقافياً. بيد أنّ هذا الخطّ حافظ على فنّيته، وهو في تجدّد مستمرّ لناحية علاقة الحروف بعضها ببعضها الآخر. ‏الأمر بالنسبة إليّ كالتوقّف الضروري عند قصيدة المتنبّي للعبور إلى الحداثة الشعرية. تنبغي العودة إلى الأصل ومن ثمّ التفكير بنحو جديد استناداً إلى جوهر واحد.

أين الحدود بين الحروفيّة الفنية والحروفيّة التزيينية؟
- ‏إنه الفرق بين الحرفة، أيّ حرفة، والفن. إنّه أيضاً الفرق بين حروفيّة الكمبيوتر واللوحة الحروفية الفنيّة ذات المضمون والتي تنتظر من يقرأها.

‏هل يمكن أن نرى في اللوحة الحروفية دلالات كالتي نعثر عليها لدى فان غوغ، أو «غيرينيكا» بيكاسو؟
- ‏بالتأكيد. الحروف هنا تمسي شكلاً ذا دلالة. كتبت الألف مثلاً بعدّة أشكال فرآها البعض سيفاً ورآها آخرون مطراً…

‏وهل يمكن التمييز بين المهارة الحروفية والإبداع الحروفيّ؟
- ‏المهارة هي التقنية. الموهبة لا تكفي. يجب أن يكون هناك جهد وإتقان ومعرفة. حين يكون الفنان ممتلئاً بالشغف والوجدان يتعمّق أكثر في الشعر والخطّ ويمتلك المهارة. ليكون الحروفيّ فنّاناً يجب أن يقتل الحرفيّ فيه ليتحرّر.