تصطحبنا فاطمة الحاج (مواليد بيروت ـــ 1952) في «نزهة في الطبيعة» من خلال 21 لوحة تملأ جدران «غاليري مارك هاشم». لا تُخفي الحاج إعجابها بأعمال الكبير الراحل شفيق عبود، إنّما أيضاً بأعمال ماتيس وبونار وفويار، وخصوصاً الفنان الانطباعيّ الأكبر مونيه الذي رسم، في ما رسم، زنابق حديقته في جيفرني. بتأثّر بهؤلاء الرسّامين الانطباعيين، شقّت الحاج طريقها الخاص في عالم الفن. معرضها الجديد اليوم كناية عن نزهة في حدائقها المتخيّلة، بين الطبيعة والذات، بحثاً عن الانسجام الكامن الذي يكتسب بُعداً روحانيّاً في فنّها. هي رحلة عبر الشرق والغرب حيث نصادف قلاعاً مسحورة، وأميرة فارسيّة من الحكايات التراثية، وعلماء من زمن بعيد أمثال ابن سينا والجزري، إلى شخصيات أسطوريّة بُعثت في لوحاتها ضمن عالمنا الحديث كي تُسعف في إخماد حرائق لبنان.
«انعكاسات» (أكريليك وزيت على كانفاس ــــ 125 × 250 سنتم ـ 2023)

احتفالية لونيّة آسرة، فالطبيعة في هذا المعرض مؤلّفة من الألوان ومشتقّاتها أكثر من العناصر أو المكوّنات، فزائر المعرض لا يرى مجرّد منظر طبيعي، بل تجسيدات لونيّة مغمّسة بالضوء والظلّ. كثافة اللون تغطّي سطح اللوحة، بين صمت لوني وبَوْح مستفيض، وبين انطباع وتعبير تجريديّ. في كلّ الأحوال، اللون ذو فتون دائم لدى فاطمة. الألوان المتقاطعة والمتوازنة كأنّها في حوار، صافية ومكثّفة، زيتيّة أو أكريليكية، أو من المادتين معاً. شفافية الريشة وسماكة العجينة اللونية تلتقيان في اللوحة أيضاً. فضلاً عن تأثيرات مونيه، يحضر كذلك تأثير ماتيس وكْلي وآخرين، فالسر اللونيّ ليس دوماً بصفاء الانطباعية العذبة، بل يخالطه حضور شخوص يكسرون الحضور الطاغي للطبيعة مثلما دَرَج لدى الانطباعيين. مع ذلك، وجود الأشخاص محدود لدى الحاج، فالعلاقة مع الطبيعة مشرّعة على خاصيّة لوحتها، إذ توزّع ناسها على مساحة كاستعارة لحضورها الشخصي في الحياة اليومية، وحضور عائلتها والبيت. والطبيعة إطار حميم للقاء عاشقين في عزلتهما، أو للقاء عائلي. ثمّة أحياناً تنافر (وانسجام) بين الشجر والبشر، كمن يحفر خطوطاً في الذاكرة ويهتمّ بالحركة لا بالتفاصيل، ما يشي بتقاطع بين الحلم والواقع بقوّة في اللوحات.
‏تشيع لوحات فاطمة الحاج أجواء من الفرح، وإنْ تبدّى لها قَدْرٌ من الحزن في الخلفيّة، إذ تطلّ في لوحتها على عالمها الخاص، فيضمحلّ الفرق بين حدائق الخارج والحديقة الداخليّة المليئة صمتاً وإيحاءات. قد تبدو فاطمة رسّامة واقعية بالمعنى السائد، بيد أنّ هذا الواقع مرتبط لديها بالمناخات الذاتية التي ترسّخ علاقتها بالواقع على نحو متوازن بين الزخرفة اللونية البصريّة والتعبير العاطفيّ، أي أنها تحافظ في نصّها التجريديّ على ملامح واقعيّة. يظلّ المنظر الطبيعيّ أساساً في بنية نصّها التشكيليّ. سخيّة في ألوانها، ولا سيّما الحارّة منها، ما يقودها إلى جدارية، تحيّةً لتولوز لوتريك راسماً ولوحة لحديقة لوكسمبورغ والقصر الكبير والأزهار البهيّة.
السر اللونيّ ليس دوماً بصفاء الانطباعية العذبة، بل يخالطه حضور شخوص يكسرون الحضور الطاغي للطبيعة


تلجأ الحاج أيضاً في عدد من لوحاتها إلى تقنية «رشّ النقاط» ذات الألوان المتنوّعة، كما هي الحال في لوحاتها التي تدور حول تحيتها (عدة لوحات في جدارية) للفنان تولوز لوتريك، وركوب الخريف، والاسترخاء الموسيقي، والمنتزه البحري من جهات مختلفة، مع إضافات حرّة على هذا العمل الفذّ. الألوان لديها فائقة الحيويّة، تأسر النظر وتثير الانفعالات. هي تجدّد المنظر الطبيعيّ وتعيد تشكيله بإحساسها الذاتيّ (تماماً مثلما فعل فان غوغ في اتجاهه التعبيريّ). تعبّر عن شغفها بهذا المنظر الذي يناديها لتعيد خلقه، إلى حدّ يُشعرنا بارتطام الموج والرياح بوجوهنا، ونسمع صوت أشرعة القوارب التي تحرّكها الريح، فهي لم ترسم الطبيعة داخل غرفة مقفلة بل قبالة المنظر في الهواء الطلق.
حديقتها المائية تحاكي أسلوب مونيه الذي هامَ بالأزهار حسّاً وإدراكاً ونوراً مشعّاً، ولو أنجزت فاطمة لوحاتها في الظروف الأحلك لبلدها، فاندفعت في حركة معاكسة إلى تكثيف ألوانها، وبعضها داكن لإظهار علاقتها بالظروف القاسية، مازجةً ألوان الداخل بألوان الواقع.
فاطمة الحاج التي نالت «جائزة بيكاسو» عام 1985، كانت قد حصلت عام 1978 على ديبلوم في الفنّ التشكيلي من كليّة الفنون في الجامعة اللبنانية، ثمّ من أكاديميّة الفنون الجميلة في لينينغراد، فديبلوم من المدرسة الوطنية للفنون الزخرفيّة في باريس. درّست في كلية الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانيّة، وهي تعرض أعمالها بانتظام بين بيروت وباريس، وعدد من العواصم العربية والأوروبية.

* «نزهة في الطبيعة»: حتى 7 آذار (مارس) ــ غاليري «مارك هاشم» (ميناء الحصن ـــ وسط بيروت). للاستعلام: 01/999313