لا شكَّ في أنَّ الترجمة كانت دوماً الوسيلة الرئيسة في تعارف الشعوب في ما بينها وحتى في رفد الثقافات بصور وتراكيب ومفاهيم جديدة من ثقافات أخرى مجاوِرة أو بعيدة، بحيث تزدهر الحضارات كلَّما انفتحت ذاتُها على الآخر واستضافتهُ في لسانها. لكنَّ الأمر، للأسف، ليس كذلك في مشروع «كلمة»، التَّابع لـ«دائرة الثقافة والسياحة» في أبو ظبي؛ وهو مشروع إماراتي، غير ربحي، يدعم ترجمة المؤلفات العالمية إلى اللغة العربية، باختيار سنوي لـ 200 كتاب من أهم المؤلفات عبر العالم، ومن مختلف اللغات، ليقدمها إلى القارئ العربي.خلال تسلُّمه نُسَخه الشَّخصية من ترجمته العربيَّة لكتاب «فهرس بعض الخسارات» للكاتبة الألمانية يوديت شالانسكي (صدر أخيراً عن «كلمة»)، لاحظ المترجم المصري سمير جريس (الصورة)، المقيم في ألمانيا، أَنَّ أحد فصول الكتاب، المعنون بـ«دائرة معارف في الغابة»، قد تعرض لمذبحة أطاحت بـ 640 كلمة على حد تعبيره، مضيفاً على صفحته الفايسبوكية بأنّ الفصل «يدور حول موضوع الجنس والأعضاء الجنسية لدى الرجل والمرأة. والحذف حدث بدون اتفاق مع الكاتبة، وبالطبع بدون الرجوع إليّ [..] إن إصدار الطبعة العربية للكتاب ظل معطَّلاً لمدة سنتين، بسبب بعض الفقرات والجمل التي أثارت حفيظة القائمين على المشروع، الذين رأوا فيها ما يثير من وجهة نظرهم، فطلبوا مني التخفيف منها ورفضت، لأنها مكتوبة بأسلوب علمي تام، لكن عندما صدر الكتاب اكتشفتُ ما حدث. وأضيف هنا أن هذا الفصل مكتوب بأسلوب علمي يكاد يكون جافاً، ولا علاقة له بالإثارة من قريب أو بعيد». وهذه مجرَّد ملاحظة أوليَّة من المترجِم، إذ لم يفرغ سمير جريس بعد من التدقيق في النص المطبوع كاملاً. وقد كان كتاب شالانسكي من أبرز إصدارات العقد الأخير في ألمانيا، ووصلت ترجمته الإنكليزية إلى قوائم جائزة «مان بوكر» للآداب غير الناطقة بالإنكليزيَّة، فرع المقالة الأدبيَّة، لتميزه بأسلوب يمزج، في توليفة فريدة، بين الأدبي والفلسفي، بالاستناد إلى الوقائع التاريخية والعلمية عبر خيال روائي خصب وخلَّاق.


وتدور الفكرة العامة للكتاب الذي يتألّف من 12 فصلاً، حول فكرة الفناء والزوال، من خلال تناول كل فصل من فصول الكتاب شيئاً اختفى ولم يعد له وجود، أو شيئاً ضاع كلياً أو ترك آثاراً مادية محدودة. وفي تداعيات لهذه القضيَّة الرقابيَّة الخانقة لحرِّيَّة تداول المعلومة ورواج وسائط المعرفة، أكد جريس، في تصريحات لمنابر مصريَّة أن ناشر الأصل الألماني دار Surhkamp، سيتواصل مع مشروع «كلمة» لتبليغه اعتراضَه على الحذف وتبرُّؤَه الكلّي مما وقع. في الشِّقِّ القانوني للقضيَّة، تؤكِّدُ العقود المبرمة بين مشروع «كلمة» والمترجمين، في أحد بنودها على ضرورة التزام المترجم الدقة والأمانة في الترجمة، ولا يتضمن حق أحد في الحذف. ويصرح سمير جريس بأنه لا يعرف الإجراء المتّبع في هذه الحالة، وأنَّ الكاتبة يوديت شالانسكي صُدمت بعدما علمت بتعرض أجزاء من كتابها للحذف. يشارُ إلى أنَّ ثمَّة سابقةً في هذا التَّدخُّلِ الرَّقابي لِمُراجع الترجمة في مشروع «كلمة» بتشويه مخطوطات المترجمين بالحذف والتعديل والتحريف، لنزوعات مُشَخْصَنَة و«أخلاقية»، لا علاقة لها بميدان الترجمة، ولا بنقل المعارف بين الشعوب، وهو ما حدث لترجمة مترجم مصري آخر: أحمد فاروق الذي نقل عن الألمانيَّة رواية «مجد متأخر» لأرتور شنيتسلر، إذ تعرَّض متن الرواية للغربلة «الأخلاقيَّة» الفجَّة عبر تطهيرها من كلّ المعجم الذي يمتُّ بصلة لأنواع الخمور والكحول، وحذف كل أنواع الجعة والنبيذ، لتحلّ محلها تعبيرات محايدة، مفتقدة للدِّقَّة في توصيف أمزجة مشروبات الشعوب الروحية، فتمَّ تعويض ما اعتبره المراجعُ «منكراً» بكلمتَي «مشروب» أو «شراب».