ينظر كتاب «مرايا التحوّلات الرقميّة والتمثلات الذهنية للذكاء الصطناعي» (بيروت، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2022) في ما يُطلق عليه «التحول الرقمي» (Digital Transformation) أي التغير المرتبط بتطبيق التكنولوجيا الرقمية في كلّ الجوانب الاجتماعية، وما يمليه ذلك علينا في السيَاق المعرفي. هو دعوة لإنشاء بنية تحتية تتعامل مع الرقمنة وثقافتها بوصفهما «رؤية شاملة للحياة»، تُعيد تأسيس الإنسانية بمسمى «الإنسانية الرقمية» التي نعاين منها الآن مرحلة «الميتافيرس» (Metaverse = ما بعد العالم الواقعي، الذي يعدنا بالانتقال من الأبعاد الثنائية للإنترنت إلى الأبعاد الثلاثية)، حيث تتداخل عوالم ثلاثة: رقمية وافتراضية وواقعية، وما تفرضه من تغيير في قواعد الاتصال بين البشر. ولا يحمل المؤلف غسان مراد راية الرقمنة، بل يدعو إلى التفكير فيها ويحضّ على رسم صورة للمجتمعات التي ستتشكل من جراء هذا النوع من التواصل. ويسهم في جهوده البحثية في تبسيط العلوم ونقلها إلى الجمهور الأوسع.
تتداخل ثلاثة عوالم رقمية وافتراضية وواقعية في مرحلة «الميتافيرس»

يُقارب مراد، الأستاذ في الجامعة اللبنانية والمختص في حوسبة اللغة والإعلام الرقمي، في الفصل الأول مسألة «الدماغ واللغة والتفكير والمواهب»، طارحاً العلاقة بين اللغة والفكر، والإشكالية قديمة ومعقّدة هدفت إلى شرح الصلة بين التفكير (عمل الدماغ) والتعبير عبر اللغة (مراكزها العصبيّة في الدماغ نفسه). يهتم الباحث بأحدث الدراسات التي ربطت بين عمل الدماغ وفهم اللغة، ما يُتيح إدراك قدرته على التكيّف مع البيئات اللغوية المختلفة، والصلة بين اللغة ونشاط الدماغ ليس أمراً يسيراً. يقول مراد: «تُعتبر اللغة وسيلة لتنظيم العالم من خلال تسمية الأشياء، وكذلك من خلال القدرة على تصنيف ما هو مبعثر ضمن مجموعات وفئات محددة. ويختلف الأسلوب الذي تمثل به اللغات العالم من لغة إلى أخرى، وهي بالتالي تترك تأثيراً في رؤيتنا لهذا العالم، فيختلف شرح الأمور ووصفها من شخص لآخر. وللغة علاقة وثيقة بالواقع الفكري، ويمكن أن تُعد انعكاساً له، ويمكن لفرضية التفكير في الكلام أن تبرهن ذلك، فالمتحدثون بلغات متعددة يفكرون بشكل مختلف لدى تحضير المحتوى الكلامي ذهنياً». واهتمام صاحب «الإنسانيات الرقمية» (2014) باللغة والعلوم جدير بالتقدير، ومناداته بتعلم اللغات دعوة لرؤية العالم «من منظور مختلف ومتنوع يمثل الحقيقة الإنسانية».
يتناول الباحث في الفصل الثاني «من الدماغ والفكر والرياضيات إلى الثورة التقنية» وفيه ينقل إلينا الأطوار التي مرّت بها تكنولوجيا المعلومات، وهي: المرحلة ما قبل الميكانيكية والميكانيكية والإلكتروميكانيكية (أي الأتمتة)، وأخيراً، التكنو-إلكترونية التي نشهد تبعاتها راهناً، المؤثرة في معارفنا وسلوكياتنا. ونحن إذ نعيش في ظلال الشبكة العنكبوتية وننهل من معينها القدر الأكبر من معلوماتنا، وبتنا نحيا على وقعها، نجد أن الذاكرة الإنسانية باتت تحاكي الإنترنت، فهي وفاقاً للباحث: «متحركة وغير ثابتة»، والنص غدا «ديناميكياً بعد أن كان استاتيكياً، وباتت القراءة انتقائية بعد أن كانت خطية». وبالتالي غيّرت الرقمنة في طريقة رؤيتنا لما له علاقة بالزمان والمكان، والصلات بين الأفراد وداخل المجتمع ككل، وحتى في رؤية شكل السلطة الحاكمة رقابنا.
ويُشدد كاتب «دهاء شبكات التواصل وخبايا الذكاء الاصطناعي» (2019) على أن التقنيات الجديدة لا تشكل سلطة بحد ذاتها، بيد أن «الاستفادة من استخدام التقنيات يشكل سلطة» وفي داخل العالم الرقمي توجد تفاوتات في من يملك أدوات المعرفة الرقمية ومن لا يملكها، وفي نظره إن «التفاوت الاجتماعي هو أساس التفاوت الرقمي، وهو يعمّق هذا التفاوت من النواحي الإدراكية والمادية والاجتماعية والتجهيزية والمعلوماتية والإستراتيجية». والسؤال الرئيس يطرحه مراد حول آثار هذه الثورة الرقمية على معيش الإنسان، ولا سيّما أن الزمن بات مضغوطاً والسرعة هي الشعار في العمل، وإجابة الكاتب تتلخص في أن الإنسان لا يستطيع أن يكون «كائناً تقنياً بالكامل». وكلما قلّصنا الوقت زادت حاجتنا إليه. ويبقى دائماً سؤال: ما العمل؟ ويريد لنا مراد أن نحاكي المفكر الفرنسي أوليفيه أودي (olivier houdé) في مؤلفه «تعلم المقاومة» (apprendre à résister) (2014)، أي تطوير مقاومة معرفية تمنع سلوكياتنا من التحول إلى سلوكيات آلية. ويركز على أن المهم هو الإنسان أولاً وليس الرقمنة. كما ينافح عن لغة العرب ويريد لها أن تواكب الثورة التقنية، ويدعو، دعوة صادقة، إلى تعليم العلوم بلغة الضاد مع الاهتمام بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
يقارب الفصل الثالث «الثورة التقنية: نظرة نقدية» وفيه تبدو الحرب فاعلاً أولَ في التطور التقني، قبل تعميم تطبيقاته وانتقالها إلى الجمهور الواسع في عملية «دمقراطة» مشهودة. وما يسمى اليوم بحروب «الجيل الخامس» قد حفر عميقاً في أساليب الحياة على الكوكب، وترك آثاراً في مناحي العلوم ولا سيما الإعلام، حيث يُستخدم الأخير للتأثير ورسم السلوكات من خلال «الحرب النفسية»، وعمادها التضليل الإعلامي وبث الأخبار الكاذبة، واستعمال البيانات الضخمة التي توفرها الآلات والتطبيقات الذكية. وهنا، يشدد الباحث على الدور الخطير المؤدَّى من وسائط الاتصال، وأحد شواهده في ذلك انتخاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وما يسهل هذا التلاعب بالمعلومات هو غياب «التفكير التحليلي». وانطلاقاً مما حدث مع انتشار جائحة كوفيد 19 وما رافقها من مقولات زائفة، يرى مراد ضرورة دراسة الواقع الإعلامي واعتماد نموذج فكري (براديغم) «يتناسب معه، يأخذ في الاعتبار التغيرات كافة، فالوظيفية كمنهج لم تعد تكفي لفهم ما يحصل، ولا حارس البوابة ولا نظرية الإشباع، ولا حتى التفاعلية». هذا، تطرح الرقمنة عدداً من التحديات، منها: ملاقاتها بمعايير اجتماعية مناسبة لها، كما فلسفة تربوية تواكبها، وبناءً عليه يلفت الباحث إلى ضرورة إعادة النظر في السلطات على أنواعها وفي مفهوم الأخلاق، ما يدفع الإنسان إلى التفكير في صورة مختلفة أمام التحديات، ويدفعه إلى الإبداع، إذ إنّ «الفكر في حركة ديناميكية بطبيعته، كدينامية بنية الدماغ المرنة المهيّأة لاكتساب المعرفة، شرط أن تكون هذه المعرفة للابتكار لا للإبهار».
التفاوت الاجتماعي هو أساس التفاوت الرقمي


أما الفصل الرابع فيعالج «من ثمار الثورة التقنية، تخطي حدود الإبداع»، وفيه بيان لأهم الابتكارات التي رأت النور في عهد هذه الثورة، ومنها النانوروبوت (Nanorobot)، فإلى استخداماته المتعددة، هو مفيد في مجال الطب ولا سيّما في تحديد الخلايا السرطانية. ويعد بالكثير، فهذه الروبوتات الصغيرة قادرة على معالجة المريض من الداخل وتتحرك بسرعة كبيرة، ويوكل لها العلماء عدداً من المهام العلاجية، إذ لها قدرة «التواصل وإنشاء شبكة في ما بينها، فهي تشكل نوعاً من الدماغ الاصطناعي وتشبه الكمبيوتر الذكي». ومن الابتكارات أيضاً الروبوتات الحيوية (Biorobotics) وهي مهمة في حقل الطب وفي الميدان العسكري، إذ تملك القدرة على التعامل مع الحالات الصعبة والمعقّدة، وهذا النوع من التقنية ألهب قريحة استديوهات هوليوود، فكان موضوعاً لعدد من أفلام الخيال العلمي.
ومن الإبداعات أيضاً «أقراص الأدوية الذكية»، وهي أجهزة استشعار يمكن تتبّعها عن بُعد، تسمح للمختبرات والأطباء دخول أجسام المرضى لمراقبة علاجهم. لعل أبرز التقنيات وأشدها وقعاً هو الذكاء الاصطناعي، وللباحث رأيه فهو لا يوافق على إطلاق صفة الذكاء على الآلات، باعتبار الذكاء خاصيّة إنسانية، فـ«الآلات لا تفكر وهي عبارة عن خوارزميات»، وعليه يبقى الذكاء الاصطناعي بمثابة «رصيد حقيقي للبشرية» شرط استخدامه على نحو صحيح.
والحال، يبقى تساؤل الكاتب الوجيه: ماذا سنفعل بهذا العالم المحكوم بالتقنية، ومن ضمنه العالم الافتراضي؟ كيف سنستخدمه؟ وماذا سيفعل بنا؟ وكيف سيخدمنا ويستخدمنا في آن؟

* كاتب لبناني