بعدما ظهر «ذهب مع الريح » في الثلاثينيات، و«بن هور» في الخمسينيات و«حرب النجوم» في السبعينيات وأوائل الثمانينيات، جاء «تيتانيك» (1997) في التسعينيات. بالطبع، لا نتحدث عن مجرد نصب تذكاري سينمائي، لكن عن عمل حرّك الجماهير، وجمع أيضاً المعرفة السينمائية للعصر الذي ظهر به، وأراد الجميع تقريباً رؤيته في الصالات في ذلك الوقت. 25 عاماً مرّت منذ عرض «تيتانيك» لجيمس كاميرون للمرة الأولى في دور العرض السينمائية. بعد نجاح إعادة طرح فيلم «أفاتار» (2009) في نهاية العام الماضي، والنجاح الكبير لفيلم «أفاتار: شكل الماء» (2022)، يحتفل كاميرون بإعادة إصدار فيلم «تيتانيك» الذي يمكن مشاهدته في السينما في جميع أنحاء العالم اليوم. «أنا ملك العالم» صاح كاميرون عندما حطّم فيلم «تيتانيك» الرقم القياسي لفيلم «بن هور» بإحدى عشرة جائزة في حفل توزيع جوائز الأوسكار عام 1998. اقتبس كاميرون الجملة الشهيرة من فيلمه ليقول لهوليوود إنّه هنا، وكان على حق. حطم الفيلم سجلات شباك التذاكر، ودفع أبعاد النجاح التي كانت تعتبر شبه مستحيلة. حتى عام 2009، لم يصل أحد إلى القمة مثل «تيتانيك»، حتى جاء كاميرون نفسه بفيلم «أفاتار» ووضع معايير جديدة لمغامرات الخيال العلمي من حيث التكنولوجيا، وأطلق موجة مستمرة من الأفلام ثلاثية الأبعاد. خلق كاميرون وحشاً سينمائياً، أنفق الكثير لإعادة إنشاء «تيتانيك» إلى درجة أن الفيلم كان أغلى من السفينة. كسر المواعيد النهائية للإنتاج، حارب لجعل مدة الفيلم ثلاث ساعات و14 دقيقة. قبل العرض، كانت قلّة تؤمن بنجاحه، وتأمل فقط تخفيف الأضرار، ولكن شباك التذاكر أظهر خلاف ذلك.
كيف تتعامل مع الأسطورة؟ هذا هو السؤال الذي يحوم حول إعادة إصدار «تيتانيك». هذا السؤال نفسه طرحه المخرج على نفسه عندما بدأ مشروعه الضخم، فغرق «أر أم أس تيتانيك» في رحلتها الأولى من لندن إلى نيويورك عبر المحيط الأطلسي عام 1912 أصبح تاريخاً مهماً في التاريخ الجماعي للبشرية لأسباب مختلفة. من ناحية، فقد أوضحت الحادثة قابلية الإنسان المتغطرس على الخطأ، ومن ناحية أخرى، إذا نظرنا إلى الوراء ربما كانت تتنبأ الكارثة التي ستهز العالم بعد عامين وهي اندلاع الحرب العالمية الأولى. وأخيراً وليس آخراً، أعطى غرق السفينة فكرة مسبقة عن كيفية تحول الحوادث إلى أحداث عالمية بسبب قوة وسائل الإعلام. تؤدي إعادة رؤية الكلاسيكيات إلى اكتشافات، وتسمح المعرفة المسبقة بالفيلم وبالتاريخ بإلقاء نظرة أكثر دقة على التفاصيل، ومن خلال إعادة الاكتشاف هذه، يمكن فهم أحاسيس معينة بشكل أفضل. لذلك، مرور الزمن في الفن بشكل عام والسينما بشكل خاص بالغ الأهمية، لذلك رؤية «تيتانيك» على الشاشة الكبيرة بعد 25 عاماً تعدّ تجربة رائعة، سفراً عبر الزمن وتحليلاً دقيقاً للنجاح وطبعاً تأثير قصة الحب في خضم فيلم كارثي نموذجي.
لفهم سبب نجاح «تيتانيك»، من الضروري العودة بالزمن، إلى التسعينيات، الفترة التي عادت فيها أفلام الكوارث إلى الموضة في هوليوود، مع رولند أيميريش على سبيل المثال («يوم الاستقلال»، و «غودزيلا»)، واستعداد الاستوديوهات الكبيرة للاستثمار بكثافة في المؤثرات الخاصة، وصيغة الفريق المكون من ممثلين صاعدين أو من الدرجة الثانية. وهنا وقع الأمر على ليوناردو دي كابريو وكيت وينسلت. وطبعاً يمكننا القول إن كاميرون مخرج طموح، عندما يفكر في شيء ما، فإنه يقدمه بشكل كبير، أفلامه هي الأفلام التي تحقق الكثير من الأموال، وينفذ مشاريع تبدو مستحيلة، و «تيتانيك» ليس استثناء. ميزانية الفيلم قدرها 200 مليون دولار، ولا يزال يدر الأرباح إلى اليوم. كانت هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها استخدام صور حقيقية للسفينة، (في وقت لاحق استعملها كاميرون من أجل فيلمه الوثائقي «تيتانيك: بعد عشرين سنة مع جيمس كاميرون» (2017) حيث أعاد فتح ملف السفينة والغوص مرة أخرى لرؤيتها ومعرفة ما تم فعله بشكل صحيح وخاطئ في الفيلم قبل 20 عاماً). تم بناء نسخة طبق الأصل عن السفينة، اشترت شركة «فوكس» المنتجة عقاراً على الشاطئ لتصوير المشاهد المائية، بما في ذلك خزان مياه لإغراق السفينة. أثر الفيلم في تطوير أفلام لاحقة من حيث التقنيات الفنية. إحدى أكثر تقنياته الثورية هي استخدام ممثلين رقميين، هذه التقنية ساعدت في إنشاء مئات الركاب الافتراضيين الذين كانوا جزءاً من طاقم السفينة الكبير. ويعد مشهد انقسام السفينة إلى نصفين، والأمواج الكبيرة والدراما داخل وحول قوارب النجاة من بين أفضل المؤثرات الخاصة التي تم إنتاجها في هوليوود حتى الآن.
هناك عوامل عدة لنجاح الفيلم أكثر من الجودة التقنية المستخدمة. لا يُظهر حطام السفينة، والتميز التقني عظمة الفيلم يوضح أيضاً قدرة كاميرون على تغطية كل خطوة من مراحل هذه المأساة بقصة جذابة. لذلك، شرب كاميرون من مصدر جاء قبل أربعة قرون: روميو وجولييت. جوهر الرومانسية بين جاك وروز ليس أكثر من نسخة حديثة من حبّ شكسبير الممنوع. مع هذه القصة الكلاسيكية الجذابة، طوّر كاميرون حبكة أحداثه لتدور في منتصف الفيلم قبل الغرق. كان تصور كاميرون في «تيتانيك» أنه إنتاج ضخم يعيد هوليوود إلى عصرها الذهبي، ولم يكن مخطئاً لأن الشريط يعبق بالكلاسيكية. قصة الحب هذه تتجاوز الطبقات الاجتماعية، وتتشرّب من مصادر الرومانسية الكلاسيكية من حيث أنّ لها بداية ووسطاً ونهاية، لا يمكن أن تكون أكثر تقليدية. مع ذلك، ليس فقط استخدام هذه الصيغة هو الذي تسبب في نجاح هذه القصة الرومانسية. يعد كل من دي كابريو ووينسلت حجر أساس في هذه القصة العملاقة، وكلاهما قدم أداءً أشار إلى الممثلين اللذين سيصبحان عليه بعد نجاح الفيلم. هي على وجه الخصوص، لأن شخصيتها تتطلب المزيد من الفروق الدقيقة. تتألق كيت وينسلت، سواء من خلال إظهار اليأس الذي تشعر به والفراغ الداخلي الذي تحمله أو في مظهر الاستسلام المطلق للعاطفة. هي كانت نموذجاً تقدمياً للأنوثة في العقد الأول من القرن الماضي. تُحاط روز من الطبقة العليا وتُستهلك بالعديد من السلوكيات غير المعقولة لطبقتها الاجتماعية، والازدراء والكراهية الفاشية للطبقات الدنيا، والسياق الاجتماعي المحبط لأولئك الذين يغرقون في التفوق السامّ. رغماً عنها، روز هي عضوة في بيئتها، و«تيتانيك» هي قصة تحوّلها. يلعب كاميرون بوعي على الأفكار المسبقة للمشاهد. جاك ليس سوى بطل واضح في روايته الرومانسية المأساوية، سراب «البطل» النموذجي، لكنه مقنع للغاية، مغامر من الطبقة العاملة صغير مقدر له القيام بأشياء عظيمة في العالم خلال رحلته. يفوز بقلب المرأة المرغوبة البعيدة عنه في نواح كثيرة. أضف إلى ذلك الموسيقى التصورية الملحمية من قبل جيمس هورنر العظيم، وأغنيةMy Heart Will Go On التي تؤديها سيلين ديون. المؤلفات الموسيقية مؤثرة ورومانسية وقوية في اللحظات الضرورية، وتمكن هورنر من جعلها تتناسب تماماً مع المغامرة الحزينة لـ «تيتانيك». إن صور كاميرون غالباً ما تكون أكثر بلاغة من حواراته. هذا ينطبق أيضاً على «تينانيك». عندما يقف جاك في مقدمة السفينة ويعلن نفسه ملك العالم بأذرع ممدودة، ينقل كاميرون الاضطراب العاطفي إلى المشاهد من خلال لقطة تتبع المنتصر. إنها تشبه إلى حد بعيد قبلة جاك الأولى وروز. خلفية السماء والبحر والموسيقى والأغنية خلفيات لحلم ساذج بالحب والحرية.
كاميرون متلاعب سينمائي رائع. السيناريو الخاص به يكون أحياناً ساذجاً بشكل يبعث على السخرية. ولكن كاميرون يعرف تماماً ما يريد من السينما وكيف يمكنه التلاعب بالجماهير، من دون إهانة ذكائه، والعودة إلى الدور الذي تلعبه السينما في البحث عن أعمق المشاعر والطفو بها إلى السطح. يمكن القول إن الفيلم متلاعب وشعبوي وميلودرامي، ويمكن أن يجعلنا ذلك لا نحب الفيلم، ولكن لا يمكن بأي حال من الأحوال ألا نعترف بأن الشريط هو نقطة في تاريخ السينما لا يمكن تخطيها. «تيتانيك» بصفته ميلودراما ما بعد الحداثة، يجمع الأسباب والدوافع الخارجية والداخلية التي تثير العواطف المتدفقة بطريقة فريدة بشكل خاص، وتعمّقها وتحققها. كاميرون ذكي في حداثته في استعمال الأسلوب الميلودرامي وعناصر الحبكة من مفهوم «الفن الهابط » الذي يتهمونه به، ويستند إلى الافتقار إلى الأصالة والخيال والاعتماد على الكليشيهات، والالفة وسهولة الاستهلاك. ولكن في العودة أساس الميلودراما بشكل عام، فإن هذا النوع من السينما تُنشأ من خلال صراع بين قوى لا تُقاس، فالشخصيات تترك وحيدة تواجه قوى معادية طبيعية منها ومجتمعية. ويمكن أن تكون القوة المعادية جسدية (مرض مميت، حادث)، اجتماعية (حرب، الفقر، الاختلاف الاجتماعي) أو روحانية بطبيعتها (الحب العاطفي، الكراهية القاتلة، الانجذاب القاتل، الفساد الأخلاقي). علاوة على ذلك، يمكن تكديس كل هذه الأشياء. كاميرون في «تيتانيك » على سبيل المثال، تواجه أبطاله ثلاث قوى لا تقهر: الشر البشري، الاختلاف الاجتماعي وقوة الطبيعة. نتيجة لذلك، يصبح الأمر أكثر إثارة، وتُستبعد بها اتهامات «الفن الهابط». الحجة المضادة لجميع الاعتراضات، هي أن الفيلم ناجح بشكل كبير، طبعاً ليس كل فيلم ناجح هو فيلم عظيم، ولكن لا يمكن إلا التوقف عند أسباب هذا النجاح. «تيتانيك» يحتفظ بالتشويق طوال مدة الفيلم، يجعلنا ننظر بذهول، يجعلنا نخاف، على الرغم من أننا نعرف منذ البداية كيف ستنتهي القصة.
جيمس كاميرون يعرف تماماً ما يريده من السينما وكيف يمكنه التلاعب بالجماهير


على الرغم من المصير المأساوي لأبطال الفيلم، والسفينة الحقيقية، إلا أن فيلم كاميرون متفائل للغاية، طفل في عصره. سمح لنا وقتها واليوم بعد 25 عاماً أن نتعامل من خلال السينما مع تاريخ «تيتانيك» ومعناها الرمزي والأسطوري كحدث وسرد وتاريخ بطريقة مريحة، كما تفعل السينما من خلال العودة إلى التاريخ وجعلنا نتعايش ونتماهى ونجد أنفسنا في عقود وجدت قبل ولادتنا. عندما طُرح «تيتانيك» للمرة الأولى في السينما عام 1997، كان ظاهرة حقيقية، إذا أردنا النظر إليه على أنه نقطة زمنية معينة في تاريخ السينما، أو مجرد ضجيج، أو ذكرى لا فائدة منها، يمكننا ذلك بسهولة. ولكن سحر الفيلم والسينما لا يزال حياً، وهذا لا يمكن إنكاره، وهذا المهم. «تيناتيك» تجربة عاطفية ومثيرة ومحفزة ومؤثرة، عاد بها كاميرون إلى السحر البدائي للسينما. هذه سينما قد صنعت خصيصاً من أجل الشاشة الكبيرة.

* Titanic في الصالات