القاهرة | بعكس ما يبدو للجميع أنّ الرجل يعيش حياة بوهيميّة، غير مرتّبة، حافلة بالعشوائية والصخب، لم يتوقف المخرج المصري العالمي عن تنظيم ساعات نومه واستيقاظه يوماً. فقد اعتاد الاستيقاظ مبكراً حتى يومنا هذا، ومطالعة آخر الأخبار والتفاعل معها، وربما يستخلص منها عملاً فنياً جديداً بفلسفته وزاويته الخاصة التي أصبحنا نرى منها كُل شيء. يستيقظ ويغالب الكسل، ثم يغادر غرفته ليقف أسفل «الدش»، تاركاً المياه تتدفق لإفاقة كُل خليّة في جسده النحيف، وهو يغنّي بصوت خافت مرتعش رائعة الشيخ سيد درويش «طلعت يا محلا نورها شمس الشمّوسة...». ينتهي من القسم الأول من عملية الإفاقة، ليبدأ في تناول القهوة على مكتبه أمام شاشة التلفزيون، مطالعاً تغطية حية للعدوان الصهيوني على غزّة. يرى أمامه مشهداً يذكّره بآخر قديم، يرى برجاً يُقصف مرات متتالية ليتم تدميره جزئياً، وبالتأكيد وفاة من يقطنون موقع التفجير ليقفز في مقعده ويسقط قدح القهوة من يده ويصيح: «يا ولاد الكلب سفلة، يا....»، ويبدأ وصلة السباب المعهودة ويقفز إلى هاتفه ليتصل برقم يحفظه وينتظر الرد فلا يأتي، يعيد الاتصال أكثر من مرّة ليأتيه صوت فتاة لا تتجاوز الـ 35 تسأله عن اسمه وماذا يريد، يجيبها بعصبية شديدة: «أنا عايز الحمار اللي عندك، فين خالد؟ أنا يوسف شاهين يا بنتي».
تجيبه الفتاة بصوت مرتعش: «ااا الأستاذ خالد في المقر، المقر الانتخابي بتاع مجلس الشعب الجي». يتمتم شاهين بكلمات غير مفهومة ويغلق الخط ثم يمسك برأسه ويشعل سيجارته ويبحث عن رقم بعد وضع نظارته الطبيّة، ثم يتصل بمساعديه ليخبرهم أنهم بصدد الذهاب إلى غزة للتصوير والتغطية ورصد كل ما يحدث لنقله للجميع، ثم يتصل بصديقه الموسيقار ليبدأ بتأليف مقطوعة تليق بالأحداث الحالية لتكون الخلفية الصوتية للمادة المصوّرة.
بعد محاولات مريرة للحصول على تصريح بالدخول والتصوير، لم يجد شاهين وسيلة لدخول القطاع بشكل عاجل إلا بالتسلل عبر أحد الأنفاق بمساعدة عدد من مشايخ القبائل في سيناء، الرجل الذي لطالما استضافه في رحلات الاستجمام الدورية التي يغسل بها روحه في أرض الفيروز. أقنع شاهين فريق العمل المصاحب له بعدم خطورة الخطوة، وبأنّ لا أحد يستطيع أن يتعرض له أو لطاقم عمله، وأنه يعلم جيداً أن الجميع يعرف قيمة ما يفعلونه وأن الدولة لن تستطيع حمايتهم فلا داعي للدخول عن طريقها، مضيفاً بعض الكلمات عن مأساة اغتيال جنود وضباط الجيش المصريين في سيناء والفرافرة، خاتماً كلامه «الله يكون في عونهم، وإحنا نعرف نحمي نفسنا». لم يغلق شاهين زر التصوير في كاميرته التي يحملها بنفسه داخل النفق ولا لحظة واحدة، إلا للاستراحة فقط، فالطريق كانت شديدة الصعوبة والرطوبة، والأوكسيجين كان قليلاً على رجل مسنّ أجرى عمليات عدة في القلب.
ومع وصول شاهين وفريق العمل، بدأ القصف الشديد على مدرسة الأونروا للاجئين التابعة للأمم المتحدة.
أمسك شاهين بالكاميرا وظل يركض هنا وهناك، ويعدو خلفه مساعدوه، ووقف فجأة مركّزاً على مشهد لطفل يحاول التقاط أنفاسه، بينما قُطع مسار الهواء بين حنجرته وقصبته الهوائية. ظل شاهين يعبث بالعدسات ويده ترتعش ودموعه تنهمر حتى أغرقت ملابسه والأرض التي يقف فوقها لتشق طريقها على الرمال وتزحف وتتسلل من بين المسعفين والأهالي، لتصل أخيراً إلى كف الطفل وتلمسه مع إعلان المسعف قدرته على إعادة مسار الهواء للطفل وإنقاذ حياته. تسقط الكاميرا من يد شاهين ويركض ليحتضن الطفل ويحدثه بكلمات غير مفهومة، ثم يتركه ويذهب بعيداً مع مساعديه. على بعد خطوات منه، يرى شاهين زحاماً شديداً على هيئة دائرة غير منتظمة، فيبدأ بتشغيل معدات التصوير وتحريك مساعديه هنا وهناك والاقتراب تدريجاً من الجَمع. يقترب حاملاً الكاميرا، مخترقاً الجموع ببطء ليصل إلى مركز الدائرة فتكتشفها عدسة الكاميرا. يرى رجلاً نحيفاً بجلباب أبيض يقف بظهره تجاه شاهين ووجهه في الاتجاه الآخر، وإلى جواره رجل ممسك بالعود يصيحان في الناس بلحن مميز: «يا فلسطينيّة وأنا بدّي أسافر حداكو، ناري في إيديا وإيديا تنزل معاكو، على راس الحيّة وتموت شريعة هولاكو». يغلق شاهين الكاميرا ويقف ليغني ويصفّق حتى انتهت الأغنية. يضع يده على كتف الرجل ذي الجلباب صائحاً: «نجم! حقّك عليّا». يلتفت الرجل النحيل صائحاً: «يا شاهين! شفت ولاد الكلب الأوساخ؟» يحتضن أحدهما الآخر، ثم يطوّقان الرجل الممسك بالعود، وينادي شاهين مساعديه قائلاً: «صوّروا عمّكم أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام عيسى، 2014 هي سنة النصر، صوّرونا وإحنا بنغنّي أغنية النصر، اللي خاصمنا بعض بسببها وبنتصالح بيها، صوّرونا وإحنا بنقول مصر يمّا يا بهيّة».
ربّما استشهد شاهين في إحدى المعارك في غزة بعد هذا المشهد، وربما استشهد ثلاثتهما، وربما عادوا لعرض العمل الفنّي كاملاً للعالم كله، ليشاهده الجماهير حتى مشهد النهاية الذي لم نصل إليه حتى الآن، لينتهي الفيلم بعبارة: «لا يموت من أحدث صخباً، وليس غائباً من حمل كاميرا أو عوداً أو ناياً، وليس بعيداً عن أحضاننا من حمل كلمة حق».
موسيقى تصويرية: إمام عيسى
أشعار: أحمد فؤاد نجم
إنتاج وبطولة: الشعب الفلسطيني
سيناريو وإخراج: يوسف شاهين