يطمح الكاتب والأكاديمي الكويتي (عراقي الأصل) نجم عبد الكريم في كتابه «عندما يتكلّم التاريخ ـــ أسرار عباقرة وعظماء، حكايات ثوار وسفاحين» (الريس) إلى دخول تاريخ «الحكاية» من بابها الواسع. يحاول الكتاب أن يخلق تجربة «ألف ليلة وليلة» بحسب المقدّمة نفسها. إنّها خلق الأسطورة من أحداثٍ ملحمية حقيقية، وإن أعيد تركيبها درامياً كي تتناسب مع النفس المحكي المرغوب، مع بعض «البهارات» هنا وهناك لخلق «الإثارة»، وهو الأمر الذي لم يخفه الكاتب، فالهدف ليس مجرد رواية الحكاية بقدر ما هو رواية لما خلفها: الحدث المثير للدهشة أو الاستغراب. راودت فكرة الكتاب عبد الكريم قبل أكثر من عقدين، عاقداً العزم على جمع ألف حكايةٍ وحكاية ليرويها. وبما أننا كشرقيين، مسكونون بالحكايا وعاشقون للأبطال والتاريخ، جاءت حكايا المؤّلف عن أبطالٍ وأناسٍ وحتى أشياء وأمكنة من التاريخ البشري المعروف، لامعين أو غير معروفين، مطروقين أو مجهولين، لكنهم يشتركون جميعاً في قصةٍ أو قصتين من عالم الدهشة نفسها.
يتنقل الكاتب بين ستة أقسامٍ تنسجم مع حماسة عبد الكريم في الرواية، فالحكمة خلف القصّة هي الهدف، لكن طريقة روايتها تأخذ حيزاً سواء عبر أبطالها أو نجومها الجانبيين.
«سفاحون وعظماء» هو عنوان القسم الأوّل الذي تناول شخصياتٍ تنوّعت بين مجرمين قتلوا حتى أقرب الناس إليهم، وعظماء سقطوا بطريقةٍ أقرب إلى «الملحمة الشعرية» منها إلى الميتة البسيطة. من جنكيز خان إلى تروتسكي، سنواتٌ تفصل، لكن الحكاية تتمازج. تيموجين الصغير الذي شاهد عائلته تقتل أمامه، يتحوّل سفاحاً لا يعرف الرحمة، يعلّق رأس ابنه على رمحٍ خارج معسكره، هو الصراع على السلطة داخل العائلة الواحدة، ويبقى شعار الدهر: الخان دائماً على حق. تروتسكي من جهته، هو الجانب الآخر للقصة: إنه دور الضحية لتروي وتكون الحكاية كلّها. فأسٌ في الرأس ليرحل واحدٌ من ألد أعداء الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين الأقوى آنذاك. هل كانت القصتان تستحقان الرواية معاً وتتشاركان في فصلٍ واحدٍ من الكتاب؟ بالتأكيد. أن يرى القارئ المشهد من الجانبين، فهذا هو المطلوب حرفياً. لكن ماذا يفعل الكاردينال الفرنسي الأحمر ريشيلو والكاهن الروسي الشهير راسبوتين في هذا الفصل؟ هما لم يكونا قتلةً أبداً بحسب ما يشاع عنهما، وإن امتازا بالبطش الشديد وقوة الشكيمة. هل تقصد نجم ورودهما هنا؟ أما قصة وزير الإعلام النازي جوزيف غوبلز فتأتي كنقطةٍ مركزية في الفصل: الرجل الذي اعتبر سفاحاً ووحشاً، يظهر له أنّه يمتلك جانباً «إنسانياً»، جانبٌ يجعله _ربما_ عظيماً لدى من كان يؤمن بهم ويؤمنون به: إنه الإخلاص، فهو يقتل نفسه وأطفاله مخالفاً أوامر الفوهرر هتلر بإخراجهم من المخبأ، لأنه مخلص لزعيمه ومؤمن به حتى الرمق الأخير. في القسمين الثاني والثالث، يتّجه المؤلّف نحو جوانب أخرى تتخالط في ما بينها: «مؤمنون وكفرة»، و«ثوارٌ وعباقرة».

اللبناني ميخائيل الصيرفي كان أحد أشهر أبطال أميركا الجنوبية

تتخالط لأن عبقرية جوهان كِبلِر صاحب ألواح كبلر التي ترسم خريطةً للكواكب والمجرات مرتبطة تماماً بما تعرض له من عذابات شديدة باتهامه بالزندقة والكفر والإلحاد. أما الثورة، فكانت في رفض الرجل الرضوخ لكل ما تعرّض له واصراره على الإيمان بأفكاره التي وصلتنا وبقيت حتى اليوم نموذجاً على التفكير العلمي السليم. لكن ماذا عن «الكفرة»؟ يتأتى «فرسان الهيكل» كمنظمةٍ سريةٍ مخيفة، تضع صليباً على ثيابها وتخالف تعاليم المسيح تماماً في كل أفعالها، ما حدا بالجميع للتحالف للقضاء عليها. لكن ما هي قصة رفض الزواج الذي كان السبب في حرية أميركا الجنوبية بكاملها؟ إنه سيمون بوليفار الذي عشق فتاةً رفض أهلها تزويجه إياها، فانطلق حاملاً خيبته لينهج طريقاً مختلفاً، ويصبح محرر أميركا الجنوبية الأوّل ورئيساً لأربع دولٍ دفعةً واحدة (كولومبيا واكوادور وبوليفيا وفنزويلا). أما المفكّر الثوري توماس بين، فهو يعد حالةً خاصة للغاية، والجمهور العربي لا يعرفه البتة، لكن أهمية الرجل دفعت دولاً ثلاثاً (انكلترا حيث ولد، أميركا حيث قاتل لأجل الحرية، وفرنسا حيث شاب وتوفي) للتنازع على جثته بعد وفاته للاحتفاظ بشرف دفنه على أرضها. كان توماس بين من الشخصيات القليلة التي أصر توماس اديسون المخترع العظيم (يرد في الكتاب أيضاً) أن يكرّمها شخصياً ببناء نصبٍ تذكاري خاصٍ بها بيديه. ولأن حكى الكتاب عن أبطالٍ مجهولين، فلا بد من أن ترد قصّة زنغا باندي بطلة أنغولا ونجمتها الساطعة (شخصية الكوميكس الشهيرة «ستورم» من «مارفل كوميكس» مشتقة أصلاً من شخصية باندي)، باندي ابنة «أنغولا» الجد الذي سميت البلاد على اسمه، حاربت البرتغاليين وكبدتهم خسائر كبيرة لدرجة أنها استطاعت يوماً السيطرة على العاصمة لواندا لتعود وتتركها لاحقاً. لكن باندي ليست القصة الأفريقية الوحيدة التي يرويها نجم، فهناك قصة بطلٍ آخر: إنه زعيم حركة الماوماو الكينية جيمو كينياتا الذي قضى عشر سنواتٍ سجين حريةٍ ورأي ليخرج بعدها منتصراً وقائداً لثورة بلاده وأول رئيس لها.
ولأن لا يمكن للقصة الإنسانية أن تكون من دون «الحب»، يحمل القسم الرابع عنوان «عشق ومآس». لو أندرياس هي عنوان المؤلّف الأول، المرأة الغامضة تاريخياً التي لم تعشق إلا شخصياتٍ عظيمة: الفيلسوف فريدريك نيتشه والشاعر ريلكه والمؤلف الموسيقي فاغنر والكاتب الروسي الشهير ليو تولوستوي، فضلاً عن شخصياتٍ أخرى تناساها التاريخ أو تجاهلها. في الإطار نفسه، تأتي «الخيزران» من عصر الخلافة العباسية، زوجة ابن أبي جعفر المنصور وتلميذته النجيبة التي حكمت بعده وإن تحت ستار ولده. أما ميخائيل الصيرفي أحد أشهر أبطال أميركا الجنوبية الذي لا يعرفه بلده لبنان، فهو من فتح له الحب باباً للهرب من حياته الهانئة، لينخرط بعدها وحبيبته في حروب التحرر في أميركا الجنوبية ويغدو بطلاً تطابق شهرته الآفاق. ماذا عن المآسي إذاً؟ لا يشذ المؤّلف عن قاعدة رواة السيرة: إنهم يعشقون حكاية المرأة شديدة الجمال ذات النهاية المأسوية الخفية: نورما جين التي يعرفها العالم بأسره باسمها الفني، مارلين مونرو. ولأن أي قصةٍ لا بد لها من صعلوكها «الشاطر حسن» وشريرها «جاك السفّاح» كي تكتمل، فإنَّ القسم الخامس المعنون «صعاليك ومجرمون»، يتناول شخصياتٍ هي كذلك حرفياً، فمن كرتوش الصعلوك الفرنسي الثائر، إلى تاجر السلاح الأشهر في العالم بازيل زهاروف (أدى النجم نيكولاس كايج دوراً مقتبساً عنه في فيلم Lord of War)، وصولاً إلى ريا وسكينة اسكتلندا (سوزان وماري). يختتم الكتاب بما خلف الأشخاص: بالأشياء والأمكنة. ارتباط الناس بأمكنتهم وأشيائهم يمتلك قدسية خاصة في الروايات. تأخذ جائزة «نوبل» فصلاً، شأنها شأن، القلادة التي أهداها ملك فرنسا شارلمان للخليفة العباسي هارون الرشيد وصولاً إلى الحديث عن بيوت بابوات روما، نظراً إلى كلّ ما جرى فيها من دسائس ومؤامرات وأحداث.