حلب | لم يعد الطريق إلى حلب مسيّجاً بالطرب. صار علينا أن نبدّل كلمات الموشح الشهير لنقول: «يا رايحين ع حلب قلبي معاكم مات». الطريق من دمشق إلى «عاصمة الشمال» طويل وكفيل بأن نجري خلاله جردة حساب لئيمة، مع زمن الكفن الفضفاض، بغير مقاس المدينة التي صدّرت طرباً وتجارة وصناعة وغاراً وزعتراً، فجازاها القدر بحرب هوجاء ثم زلزال مدمّر! أيّ وجه يمكن أن تقابلنا به حلب، وقد اعتدنا منها النّهفة والدعابة والمنافسة الشرسة؟ ضبطنا في كلّ مشوار آذاننا نحن جمهور نادي الوحدة الدمشقي على «شتائم» مدوزنة من مشجعي الأهلي، وكنّا لا نبتئس منها باعتبارها واحداً من طقوس الفرح وعناصر الدهشة المعدّة على قالب المتعة، حتى صالة الحمدانية التي كانت خزّان فرح وجحيم حماس، من يدخلها، يجب أن يخلع نعليه ويخفض رأسه أمام جمهور تعشّش الرياضة في ثناياه، لكنّها استحالت اليوم فيض حزن وملاذاً آمناً بعدما صارت مركز إيواء لمئات العائلات التي لم يترك لها الزلزال مأوى. الفرق بن الزمنين هو بالضبط فرق الملّون الباهي، عن الأبيض الباهت يجاوره أسود قاتم مثل «عصّة» قبر!الشوارع مفروشة بالمشرّدين، والسيارات صارت ملاذاً لعائلات عديدة، حتى لو لم تُصب بيوتها، أو تتصدّع، لكّن خوف أهلها والرعب الذي تسيّد المشهد، جعلهم يبيتون كلّ ليل في العراء، محتمين بسياراتهم البسيطة. خلافاً لما تروّجه السوشال ميديا عن فوضى وتقاعس في عمليات الإنقاذ، تبدو الأمور أكثر تنظيماً وأشمل في مواءمة المصاب.
جولة سريعة على مراكز الإيواء من صالات أفراح، ومساجد، وصالات رياضية، وملاعب، كفيلة بأن تجعلك تداوم على زيارة الطبيب النفسي لأشهر طويلة! أخيراً سنصل «حيّ المشارقة» وسط حلب. إنّه خطّ التماس على مدار سنوات الحرب، كونه تقريباً يفصل أحياء حلب الشرقية مثل: بستان القصر، وصلاح الدين، وجزء من سيف الدولة، والفردوس، والصالحين، والشعّار، وصولاً إلى الأرياف التي كانت تسيطر عليها المعارضة المسلحة، عن أحياء حلب الغربية مثل: حي الإذاعة، والفرقان، والجامعة، والشهباء، وحلب الجديدة، والحمدانية، التي كانت تسيطر عليها الدولة. «المشارقة» نالت نصيبها اليسير من دمار الحرب، وصار وقت أن يختلط غبار المعارك بركام الأنقاض بعدما تساقطت أبنية فيها. على قدم وساق، تتساعد قوات الدفاع المدني وفرق الهلال الأحمر السوري والمتطوعون من فرق الإنقاذ الجزائرية والتونسية مع معدّات ثقيلة كاملة، وسيارات إسعاف، ومولدات كهربائية لانتشال الجثث. الجثث ينتظرها ذووها منذ أيّام. هنا سيدة تلاحق جسد مسجّى ملفوف بمشمّع أبيض. عندما تتعرف إليه، تغيب عن الوعي تماماً ويكون آخر ما تقوله بصوت محبوس في معتقل تعذيب: «هذه الجثة رقم 25 منذ أربعة أيّام». البناء له قصّة تصلح لأن تصير فيلماً يقطر مأساة. كان فيه نحو 70 شخصاً لاذوا بالملجأ عند حدوث الزلزال فانهار عليهم. انتشل سبعة ناجين والبقايا جثث. أفظع ما حصل بأن سيدة ظلّت تشرب من أنبوب مياه مكسور ثلاثة أيّام لتتمكن من مناهضة الموت وتتمسّك بالحياة، ثم يتم انتشالها حيّة قبل وصولنا بساعات أي بعد أكثر من ثلاثة أيّام على سقوط مبناها وحصارها تحت الركام. تسحب فرق الإنقاذ ملفات مهمة تقول بأنها تعود للقاضي خلف الحسن الذي اصطحب في الليلة المشؤومة أوراقه ليدقق فيها، فظل مع وثائقه وقضاياه تحت الركام! قريبه المعتصم بالله الحسين يوافق على الحديث معنا، لكنه يقطع كلامه مرّات متتالية وهو يركض وراء جثّة جديدة انتشلت ليعرف إن كان عمّه أم لا. الحيرة والحسرة والغصّة في صوته وهو يقول: «منذ أربعة أيّام وأنا أنتظر انتشال جثث العائلة وبقي هو. كانت في ضيافتهم زائرة هي الوحيدة التي نجت». لن يزيد الآخرون على ما قاله، حتى الأطباء التونسيون سيطلبون من الجميع الصبر والاحتساب وهم يؤكدون بأن ما يتم إنجازه من عمليات تطويق للكارثة في سوريا كان مفاجئاً بالنسبة إليهم ويفوق قدرات بلد منهك من الحرب!
شرفات المنازل المنكوبة تحكي. لم يعد يسترها شيء، صارت مشرّعة للجميع. في زمن الكوارث، لا جدران تحمي سكّانها ولا ذكرياتهم ولا معالم مأساتهم في لحظاتهم الأخيرة. التفاصيل تبوح بكامل أسرارها. الغسيل المعلّق، تفوح منه الآن رائحة موت خالصة! الخزانات الخشبية البسيطة. المراوح التي كانت تنتظر الصيف ببالغ اللهفة. مرايا الأطفال الصغيرة... الآن تنتشل جثّة امرأة. نسأل أنفسنا: ترى ماذا كانت تفعل عندما انشقت الأرض وابتلعتها. هل كانت تغطّ في نوم عميق، أما أنها كانت تحرس ليل أطفالها؟ الأسئلة تصبح ضجيجاً وازدحاماً واختناقاً، لكن زمّور سيارة الإسعاف يقطعها بصرامة. تظلّ عيون الطوابير معلّقة على خيوط العبث، والجميع يتحسّب من سقوط مبنى جديد في أيّ لحظة، أما البحث فجارٍ عن: أرواح، ذكريات، أو مجرد جثث! طوابير من المنتظرين على أمل. طيب من يجرؤ على قول كلمة أمل اليوم، هذه الكلمة التي شيّدت عداء أزلياً مع معظم السوريين! لا شيء يمكن أن يقال سوى أن حلب تكمل معالم الكارثة! من حي المشارقة، سننتقل إلى الشعار ثم العزيزيّة في زاويتها. بناء كان تحته سوق صاغة تداعى كلياً، وظلّ ضوء خافت بداخله يشهد على الملمّة الموغلة. لقد غادر سكّان هذا المبنى قبل انهياره فوق أحزانهم. تكدّست ذكرياتهم وأوجاعهم وامتزجت مع الأنقاض. ظل فقط بصيص الضوء الذي نسوه، أو تركوه ينطفئ وحيداً وعلى مهل خلافاً لهول الصدمة. كان ذلك أوّل بناء هبط بعد الزلزال.
على جوانب أوتوستراد الحمدانية، الحياة في أواخر الليل تبدو في أوجها، والجميع اعتكف عند الطريق قبل أن نكتشف رجلاً قد أشعل ناراً وخيّم في مقبرة. يقول سكّان الحي بأنها مقبرة عشوائية تشكّلت في سنين الحرب على جانب طريق عام. يصف الرجل حاله بالجثة التي ما زالت على قيد الحياة. لذا لم يجد أفضل مكاناً من المقبرة ليخيّم فيها بعدما تصدّع بيته وصار على مقربة من السقوط الأخير!