قبل فترة، أعلن مجلس الرقابة في «ميتا» استثناء المنشورات التي تدعو إلى موت المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الإيرانية السيد علي خامنئي، ولا سيما تلك التي تحتوي على شعار «الموت لخامنئي»، من مفاعيل قاعدة الشركة التي تحظّر أيّ منشور يتضمّن تهديدات عنيفة. وبرّرت الشركة التي تملك فايسبوك وإنستغرام وواتساب، قرارها بأنّ العبارة ليست تهديداً حرفياً للمرشد الأعلى، وبأنّه يجب «بذل المزيد من الجهد لاحترام حرية التعبير والسماح باستخدام التهديدات الخطابية. تقمع الحكومة الإيرانية بشكل منهجي حرية التعبير، وأصبحت المساحات الرقمية منتدى رئيساً للمعارضة. في هذه الحالات، من الضروري أن تدعم «ميتا» صوت المستخدمين». القرار هذا لم يكن الأوّل من نوعه، إذ سبق أن سمحت «ميتا» قبل أشهر بالمنشورات التي تدعو إلى قتل الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين، ضمن حملة الغرب والـ«ناتو» المفتوحة على روسيا في كلّ المجالات، قبل أن تعود عن ذلك.
محمود الرفاعي ـ الأردن

لا يتعلّق الأمر بالاصطفاف خلف إحدى قوّتَين متناحرتَين ولا بتبريرات أخلاقية على طريقة إيمانويل كانط لتدعيم موقف الانحياز لطرف دون الآخر. لسنا هنا لتقييم الاحتجاجات في إيران وخلفياتها، ولا تدخّلات الولايات المتحدة وتأجيجها الصراعات خدمةً لمصالحها، ولا حتّى هامش حرّية الرأي في البلدَين. هي ببساطة مسألة نفاق وازدواجية معايير من شركة خاصّة تسيطر على الجزء الأكبر من العالم الافتراضي وتهيمن عليه وتحتكره، وتقدّم خدمةً تفوق بتأثيرها الخدمات العامّة، وانتشارها لا يقتصر على حدود دولتها بل يصل إلى كلّ بلد على هذا الكوكب. حروب الولايات المتحدة لا تعدّ ولا تحصى، إلّا أنّ الشركة نفسها لا تتوانى عن حجب منشورات مستخدِمين لحقهم أشدّ الضرر من تلك الحروب في حال تضمّنت عبارة «الموت لأمريكا»، فكيف إذا كانت موجّهة ضدّ شخص معيّن كرئيس الجمهورية مثلاً؟ الازدواجية تبرز بشكل أقوى عندما يتعلّق الأمر بالكيان الصهيوني؛ جرائم الاحتلال واضحة ولا جدال حول مئات الشهداء الذين يسقطون قمعاً وترهيباً برصاص جيشه ومستوطنيه، إلّا أنّ أيّ منشور يناهض الصهيونية أو يتضمّن شعار «الموت لإسرائيل» أو حتى إشارة إلى دعم المقاومة الفلسطينية، كفيل بأن يُحجب ويعرّض صاحبه لتُهم «معاداة السامية».
قد يبدو بديهياً أن تروّج شركة أميركية لسياسات بلادها، إلّا أنّ ذلك لا يلغي أنّ ترويج أي شركة لسياسة أيّ بلد، ولو كان بلدها، هو أمر غير طبيعيّ مهما اتّسع نطاقه. إذ إنّ «ميتا» بهذه الطريقة تمهّد الطريق إعلامياً ونفسياً وسوسيولوجياً، أمام خطط رفع مستوى استهداف الدولة التي يضعها «العم سام» في المهداف، مع الإدراج الممجوج لهذا الارتكاب تحت شعار «الأهداف الإنسانية». هكذا، تتحجّج الشركة المملوكة من الملياردير مارك زوكربرغ بأنّ السماح بدعوات الموت لبوتين وخامنئي «متنفّس للمستخدمين في المنطقة للتعبير عن غضبهم»، متناسيةً أنّ هناك مستخدمين مؤيّدين لهما سيزيد احتقانهم. لكنّ «تناسيها» هذا ليس بريئاً تماماً؛ إذ تتقصّد «ميتا» تأجيج النقاشات والمشادات والجدالات السطحية على مواقع التواصل وما يرافقها من شتائم وتهجّمات وأحقاد، متّبعةً في ذلك سياسة «فرّق تسد» لتصيب عصفورين كبيرين بحجر واحد: زيادة الفرقة بين الشعوب، وزيادة ساعات الاستخدام، ما عدا إصابة عصافير صغيرة
كثيرة.
نفاق وازدواجية معايير من شركة خاصّة تسيطر على الجزء الأكبر من العالم الافتراضي


بذلك، ارتضت «ميتا» أن تكون أداة في الحرب الناعمة التي تشنّها الولايات المتحدة على دول عدد مواطنيها المسجّلين في فايسبوك أعلى بكثير من أقرانهم الأميركيين، لتنضمّ إلى منصّات أخرى كتويتر التي تستسهل حجب كلّ من يعارض مصالح الإمبراطورية، ولو كانوا أميركيين مثل سكوت ريتر وروبرت مالون. يمكن الإشارة أيضاً إلى محاولة الولايات المتحدة والغرب اختزال الحرب على الدول بشيطنة رؤسائها، ليسهل استهدافها ونشر الفوضى فيها وتأليب مواطنيها بعضهم على بعض بحجج «الديموقراطية»، فيما تجهد الآلة الإعلامية الضخمة (التي تنتمي إليها «ميتا») إلى اعتماد بروباغندا مخابراتية تضليلية تخدم المجهود الحربيّ والماليّ للدولة المتسلّطة المتسلبطة.