تجاوز النوعيّة Genre أصبح خاصيّة شائعة في أفلام الرعب، فالقالب السائد الموجّه نحو تيمة معينة؛ أضحى نموذجاً قديماً بالنسبة إلى السينمائيين الجدد، يصلُح للتوظيف داخل إطار الإشارات والتلميحات كتحيّة لصورٍ كلاسيكية شاركت في خلق إرث سينمائي وأسهمت في ما نحن عليه الآن. لذا من الطبيعي أن تأخذ سينما الرُّعب نمطاً درامياً وميلودرامياً يجعل البعض يتردد في توصيفها بالرُّعب. لقد تهاوى اليقين الكلاسيكي للنوعيّة، وتقلّصت الحدود بين الأجناس السينمائية، لتنزع السينما نحو مساحة كبرى من الارتباك، كتأثير ما بعد حداثي؛ يُضيف أكثر لها من الناحية الإبداعية، ويوفر مساحة كبرى للتجريب بدون معايير صارمة أو نمط نموذجي للمُنتج الإبداعي، ما يُبرر تحقيق أفلام رُعب تميل إلى استحداث الرؤى واستكشاف مساحات جديدة. فيلم «الأبرياء» (2021) لإسكيل فوغت؛ الذي يؤسس لنموذج طفل شرير داخل حيّز خوارقي، وMen لأليكس غارلاند، وWatcher لكلوي أوكونو، وفيلما تاي ويست «أكس» و«بيرل» (2022)... كُلّها أفلام تنشد التجديد، شكلاً وموضوعاً، حتى على مستوى التقنيّة الحكائيّة، فإدماج الثِّقل الدرامي يمنح التجربة القدرة على تجاوز النوعيّة.
بعد «أكس»، فيلمه الأوّل في ثلاثيّة الرعب المُخطط إتمامها قريباً جداً، يعود تاي ويست بفيلمه الثاني «بيرل» (يُمثّل بادئة Prequel الثُّلاثيّة) الذي يتدفق زمنياً من حقبة تقليدية ومُحافظة في نمطها الاجتماعي خصوصاً الريفي، نظراً إلى أسباب عديدة تتعلّق بالحرب العالميّة الأولى وافتقاد الأطراف المُتعاركة للنظام الاجتماعي الصحّي إثر خسارة الأيادي العاملة في الحرب، بالإضافة إلى انخفاض جودة الحياة وهشاشة الحالة الاقتصاديّة في الولايات المُتحدة، واجتياح الإنفلونزا الإسبانيّة للعالم في ذاك الوقت.
تنطلق السرديّة من عام 1918، وتكتسي بظروفٍ تاريخيّة تمنحها قيمة اجتماعيّة وتطبع شخصيّاتها بمسحة كلاسيكيّة واضحة؛ تتأرجح بين بلاهة الريف المُحببة كما في شخصيّة بيرل (ميا غوث)، وفظاظة حرب مُزعجة؛ مُشرّبة بقسوة الواقع السياسي والاجتماعي كما في شخصيّة الأم روث (تاندي رايت). ورغم صخب وعشوائيّة الحقبة الزمنية؛ كمساحة مُجمّعة لعدّة وقائع عالميّة تتسم بالاضطراب والفوضى؛ يأتي «بيرل» أكثر سكوناً ورتابة، لانحصار السرديّة بحيّز مكاني، يؤطر الشخصيّة الرئيسية من منظور ضيّق، ولا يحاول فتح خطوط سرديّة جانبيّة. يُركّز على نموذج فردي داخل مساحة اجتماعيّة ضئيلة، ويحاول التعاطي معه في ظل العوامل والخصائص البيئية والاجتماعيّة للحقبة التاريخيّة. يطوّر لدى الشخصية هوساً بالفرار، والانعتاق من العادات والروتين اليومي. إذاً، يمثّل المكان سجناً للتطلّعات المُستقبلية، لأنه يشمل داخله نظاماً اجتماعياً مُرسّخاً لا يملك مقوّمات تحقيق طموحات بيرل، فيتحوّل النمط الاجتماعي والخاصيّة المكانيّة تدريجاً إلى الخصم الأول في القصّة، الغريم الأساسي التي تسعى الشخصيّة لهزيمته والتحرر من محدوديّته.
في فيلمه الثاني، يتعرّض المُخرِج لشبيبة «بيرل»، في طورٍ ينزع لعنفوانٍ وجموحٍ فكري وجنسي مُقارنة بالحقبة الزمنيّة. يصوّر تاي شخصيته الرئيسيّة في وضعيّة حالمة، مُتمرّدة داخلياً، لكنها مُقيّدة بالجو العام والحالة الحرجة للمزرعة والأسرة. عليها أن تتعاطى ــ قسراً ــ مع مأساة اجتماعيّة وأُسريّة حادة، فوالدها مقعد (ماثيو سندرلاند)، ووالدتها تُجبرها على رعايته لأنها تعتني بالمنزل والمزرعة. لا تشعُر بيرل بالترابط الأسري، بل ترى أنّ النسق الاجتماعي يحبسها داخل فروض الولاء لمنظومة لا تتسق مع أحلامها بالرقص داخل الأفلام، بالإضافة إلى توجّه زوجها هاورد (أليستير سيويل) إلى الحرب منذ سنوات، ما يُحرّك الحاجة الجنسيّة في أطُر متطرّفة اجتماعياً ونفسياً. كُل هذه العوامل تُشكّل وعي بيرل بعالمها، وتدفعها إلى محاولات للفرار من عالمها الضيّق إلى عالم أكثر إشعاعاً، حيث تُراقب النساء يرقصن في الغُرفة المُظلمة، بحركات مُنتظمة على إيقاع موسيقي يضبُط الأيادي والأرجُل، يُثير دبيب أقدامهن في نفسها الأحلام الورديّة، التي تتبدى من بعيد غير منطقيّة وكاذبة. بيد أنها في حضرة الأفلام الاستعراضيّة تتشبّع بأشباح الحُلم الهُلاميّة. إذاً فما يُرسّخه المُجتمع، تُزيحه السينما بخيوط الضوء السحريّة، إنها المادة الخام لبناء وتغذية الأحلام.
تلتصق الكاميرا بجسد المُمثلة، ولا تتحرّك السرديّة إلا بفعلٍ ترتكبه بيرل، لا يجد المُشاهد أمامه إلا التعاطي مع البطلة ورُبما التوحّد معها، ولكن انحصار الفيلم بشخصيّة واحدة، أضعف السرديّة وجعلها أكثر هشاشة، حتى مع المُحاكاة الكلاسيكيّة والأداء المُميز الذي قدّمته ميا غوث. حضورها الطاغي لم يشفع للمُخرِج صُنعه لشخصيّاتٍ مجوّفة، بلا تاريخ ولا حاضر، حتى إنّ عامل العرض في السينما The Projectionist (ديفيد كورينسويت) يُعَرَّف بمهنته، لا يُسهم إلا في مهمّة مُحدّدة، ما يحوّل الشخصيات إلى نماذج كاريكاتورية في بعض أوقات الفيلم.
لا تتوقّف عمليّة الربط على الشخصيّة الرئيسيّة التي تأخذ مكاناً مُختلفاً داخل كُل مُنتج بصري على حدة، بل تمتد إلى الفضاء البيئي، مُتغلغلة في الهويّة والإدراك المكاني. فالمزرعة الريفيّة التي كانت موقعاً للأحداث في «أكس» هي نفسها التي تشهد تحوّل شخصيّة «بيرل» من فتاة ريفيّة ساذجة إلى امرأة مُضطربة نفسيّاً واجتماعياً، مهووسة بذاتها، تتعاطى مع الأفراد حولها بمنطقٍ متوجّس. يختتم ويست فيلمه بمونولوغ طويل، كاشف ومُباشر، يُعدد الأسباب التي حوّلت بيرل من شخصيّة ساذجة تتعاطى مع الحياة من منطق حالم يبتعد عن الواقع بمسافة، زوجها الغائب، وأمها القاسية، ووالدها المقعد... كُلّها مُقدّمات لفشل اجتماعي وتطرّف في الأفعال، لكن بغضّ النظر عن قوّة الأداء وكثافة المونولوغ وقوّته، فهو على المستوى البصري لم يكن ذا قيمة، يُمكن حذفه بدون ضياع المعنى العام أو إفشال السرديّة. فضّل ويست أن يصنع ذروة أدبيّة، مُكاشفة كلاميّة تُفقِد السرديّة الكثير من تماسكها، لأنها تتعاطى مع المُشاهد مُباشرة، كالأطعمة الجاهزة، لا تحتاج إلى مجهود لصناعتها، فهي تأتي مُعلّبة ومُهيّأة للأكل. بخلاف ذلك، نجح المُخرِج في خلق مُناخ من التوجّس، وتصوير مشاهد تقطيع مُميّزة، إلى جانب ميله إلى الدراما أكثر من مشاهد الرعب العمياء، بالإضافة إلى مجهود المُمثلة في ارتداء الشخصيّة بمنهجيّة كلاسيكيّة، سواء في حركتها أو في طريقة كلامها، حتى في أسلوب رقصها أمام اللجنة في الكنيسة. هذه الأشياء تجعل من الفيلم مقبولاً، ولكنه بالطبع أقل من «أكس» الفيلم الأول في السلسلة. يذكر هنا أنّ كلا الفيلمين صُوّرا في مزرعة داخل نيوزيلندا خلال جائحة كورونا. صُوّر «أكس» أولاً. وعندما وجد الطاقم نفسه مُلزماً بالمكوث، قرّر تصوير الفيلم الثاني «بيرل» كبادئة ومُكمّل للفيلم الأول.