منتصف آذار (مارس) 1992، كان اجتماع التحرير الأول الذي أحضره في «السفير» بوجود «الأستاذ طلال». كنت قدمت من «النداء» جريدة الحزب الشيوعي الذي تربطه علاقات قوية مع «السفير». وكان الراحل سهيل عبود هو من سهّل دخولي إلى «السفير»، بعد اتفاقه مع فيصل سلمان الذي كان قد تسلّم منصب مدير تحرير المحليات في الجريدة.في ذلك الاجتماع، بادرني أبو أحمد «الحمد الله ع السلامة»، والتفت إلى بقية الزملاء موضحاً «كان إبراهيم في إجازة وعاد إلى العمل». غمزني فيصل وقال لي «إنه إطراء، لكن المهم أن تنتبه إلى أنّ «السفير» ليست «النداء»، وأنّ عليك إعادة لملمة نفسك حتى تستمرّ هنا».
كان فيصل مشهوراً بأنه الأكثر صراحة، وأفضل من شرح المكتوم. وكان يزعج البعض بصراحته حيال ما يجب أن يُكتب وما لا يجب أن يُكتب. لكنه كان يلتزم بما يريده «الأستاذ»، وسرعان ما صار فيصل يطلب مني الصعود إلى الطبقة السادسة «لحضور الصالون السياسي لرئيس التحرير». لكنه عاجلني بتوصية حادّة: «كن مستمعاً واجمع الأخبار، وبلا تحليلات الله يخليك».
العلاقة بـ«السفير» لا يمكن أن تستقيم لأحد من دون نيل ثقة الأستاذ طلال. ليس لكونه رئيس التحرير أو صاحب العمل، بل أساساً وقبل أي شيء، لأنه صحافي لا يمكن لك أن تحتال عليه، يستطيع أن يعرف مصدرك ولو جرّبت التكتّم طويلاً. ويعرف إن كانت جهة أو مسؤول يحاول جرّك إلى وجهة من دون أن تعرف أنت بالتحديد ما يجري، وكان لطيفاً في قول ملاحظاته على ما تكتب وكيف تكتب، كما كان حازماً في جعلك أمام الاختبار اليومي في التطور المهني. هو لا يقفل الباب أمام أحد. ولا أعرف أحداً مرّ على «السفير» وادعى أنه تعرّض للتهميش لسبب شخصي أو سياسي أو خلافه. كانت الجريدة متاحة كمركز تدريب، حتى الفصل بين الأقسام، لم يكن يمنع أحداً من متابعة قضايا خارج اختصاصه المباشر. وهو ما سمح لي سريعاً بأن تكون لي مساهمات على شكل أخبار أو تقارير أو مقابلات تتناول ملفات خارج القسم السياسي الذي عملت فيه طيلة عملي في «السفير». وكان «الأستاذ طلال» يعرف حاجة الصحافيين الأساسيين إلى الإحاطة بجوانب أخرى من المشهد السياسي والاقتصادي والديبلوماسي، لذلك كان يطلب مني مرافقته (كما آخرين من الزملاء) إلى اجتماعات مع رجال أعمال وخبراء ماليين ومسؤولين أمنيين وديبلوماسيين، كما سافرت معه مراراً إلى دمشق والقاهرة. وربما هو أكثر من أتاح لي الفرصة للسفر إلى بلدان كثيرة بمهام صحافية أو حتى للراحة أيضاً!
ما قدّمته لي «السفير» كان هائلاً. وما قدّمه لي الأستاذ طلال شخصياً كان هائلاً أيضاً. ولذلك لم يكن يخطر في بالي لحظة أن أترك «السفير». حتى المشكلات المهنية أو الوظيفية وبعض المحطات السياسية لم تكن لتُقفل الباب أمام حوار ينتهي إلى معاودة الاندفاعة في العمل، إلى أن جاء زلزال اغتيال رفيق الحريري عام 2005. في تلك الفترة، كانت اللحظة السياسية شديدة التطلّب لأخذ موقف من الانقسام الحاصل. لم يكن «الأستاذ» في وارد أخذ جانب يضرب موقع الجريدة الحاضر في كل الأوساط اللبنانية، والذي نجح في اختراق جمهور وساحات أقفلت في زمن الحرب الأهلية.
سبق حدث عام 2005، نقاش مهني استمر لأكثر من عشر سنوات، حاول خلاله الراحل جوزيف سماحة تسيير مقترحاته لتطوير الجريدة، من دورة العمل إلى التبويب الجديد وصولاً إلى الماكيت وتوزيع الصفحات، وإدخال أبواب إضافية واعتماد برنامج مختلف للمراسلين والكتّاب من خارج ملاك الجريدة. وكان «الأستاذ» يقف إلى جانبه، خصوصاً في فترة ضخ دماء جديدة من خلال قسم جديد باسم «شباب السفير». لكن التغييرات الحقيقية لم تكن لتحصل، لأسباب كثيرة، ربما كان بعضها يعود إلى خشية رئيس التحرير من انعكاسها مشكلات داخل الفريق القيادي للجريدة. لكن النتيجة كانت في أنّ جوزيف أصابه الإحباط وقرّر المغادرة.
في تلك الفترة، أعيد إحياء نقاش حصل عام 1998 عند وصول العماد اميل لحود إلى رئاسة الجمهورية. يومها فكّر جوزيف وزملاء من مؤسسات أخرى، بالحاجة إلى مؤسسة صحافية جديدة، تستهدف مهنياً حجز المكان في مواجهة الإعلام التلفزيوني، وتمثل خطاً ثالثاً بين الفريق الذي يقوده رفيق الحريري والفريق الذي يقوده اميل لحود. ويكون له بالتالي، مسافة من الإدارة السورية للوضع في لبنان.
لكنّ أحداثاً كثيرة عدّلت في نظرة جوزيف إلى الأوضاع، من تحرير عام 2000 إلى الحرب على العراق عام 2003 وصولاً إلى اغتيال الحريري. اختلفت الصورة عنده تماماً. كتب سماحة يومها عبارته الشهيرة: «ما يجري إنما يستهدف نقل لبنان من ضفة إلى ضفة». وكان الأمر بمثابة نقطة الانطلاق الجدية في بحث سُرعان ما أثمر توفير متطلّبات إصدار جريدة جديدة.
كان ذلك في نهاية صيف عام 2005. جمعت نفسي وصعدت إلى الطبقة السادسة، واخترت وقتاً يكون فيه مكتب رئيس الحرير من دون ضيوف. قال لي: خير؟ قلت له سريعاً: جئت أشكرك وأقدّم استقالتي؟ ابتسم وعدل في جلسته ليرتّب يده تحت ذقنه كما كان يحبّ أن يفعل. أخذ نفساً عميقاً من سيجارته وقال: ما السبب. هل هناك مشكلة مع أحد في الجريدة؟ قلت له: لا أبداً. فواصل كلامه: طيب شو القصة؟ كنت درّبت نفسي جيداً وفكرت لكن، كنت أعرف أنّه يعرفني فظاً ومباشراً، فقلت من دون مواربة: أريد إصدار جريدة؟
ابتسم، وعدل قليلاً في جلسته وقال لي: تعرف، لقد سمعت مئات الأسباب من زملاء قرروا الاستقالة، وكنت أسعى إلى معالجة الأسباب، وكان هناك من يبتزّني بأنّ لديه عروضاً من هنا، أو رواتب أفضل أو خلافه... لكن صراحة، لم يخطر ببالي أن يدور برأس أحد حيلة كهذه؟
لم يكن هناك من مجال لمزيد من المزاح في الأمر. قلت له بعض ما كان يُفترض بي قوله، خصوصاً أنّ جوزيف كان قرّر عدم الاستقالة في الوقت نفسه، وأنه سيؤخرها حتى مطلع العام الجديد. فطلب مني الأستاذ طلال الذهاب إلى مكتبي «نحكي لاحقاً». خرجت وتوجهت مباشرة إلى مكتب المدير العام ياسر نعمة، الملاصق لمكتب رئيس التحرير، وقلت له إنني أريد تقديم استقالتي رسمياً وشرحت نفس الحكاية. وتعامل المدير العام بجدية أكبر، واستجوبني قبل أن يذهب هو إلى مكتب رئيس التحرير ويقول له: الأمر جدي!
اغتيال الحريري عام 2005 تطلّب أخذ موقف من الانقسام الحاصل


حصل الكثير من الأخذ والرد، ونقاشات وعروض في الفترة التي بقيت فيها في الجريدة قبل المغادرة النهائية مطلع عام 2006. لكنني كنت أشعر بأنّ الأمر صعب وثقيل جداً، وكنت أتجنّب الحديث مع أحد عن الموضوع. وهو كان يرمقني بنظرات غضب كلما مرّت الأيام، وشعر بأنّ الأمر جدي. لكن، منذ اليوم الأخير لعملي في «السفير» حتى يومنا هذا، لم أسمع لا مباشرة ولا نُقل إليّ أي كلام سلبي عن لسان «الأستاذ طلال»، برغم أنّني أعرف عن الآثار السلبية لخطوة إصدار «الأخبار» على «السفير»، وعن غضبه الذي زاد بعد استقالة جوزيف وانضمام زملاء لنا خلال أشهر قليلة. لكنني أعترف، أنني ذات يوم، قصدته حاملاً ملاحظات حول واقع «السفير» كما كانت عليه في آخر عامين لها قبل الإقفال، وقلت له: أنت تقول بأنّ «الأخبار» هي بنت «السفير»، وأنا هنا لأقول لك إن البنت قلقة على أمها، لكن خلال دقائق، شعرت بأنني أمارس ما هو ليس حقاً لي، وأنني أقدّم نفسي من موقع لا يحق لي أن أدّعيه تجاه شخص مثل طلال سلمان. ومن يومها، التزمت الصمت حتى يوم إقفال «السفير». كتبت غاضباً لأنني إلى اليوم، لا أبرّر له هذه الخطوة، ولأنني إلى اليوم، أشعر بأن أحد عناصر قوة «الأخبار» كانت ناجمة عن التحدي اليومي في وجود جريدة مثل «السفير».
لم يهرب طلال سلمان يوماً من مواجهة التحديات. له طرقه في المقاربة والتحليل والتواصل، لكنه يمثل مخزوناً كبيراً، أرى نفسي استخدمه في كثير من الأيام بين زملائي في «الأخبار» ومع سياسيين كان يعرف هو كيف يتعامل معهم، وكل القساوة التي قامت بفعل صدور «الأخبار» ليس لها معنى من دون الإقرار صراحةً وبداهة، بأن «الأخبار» لم تكن لتولد، لولا وجود «السفير»، وما كانت لتولد لولا أنّ لها أباً وأماً هو طلال سلمان!