على وقع نكبة فلسطين (1948)، اكتسب وعيه العروبي وهو في العاشرة من عمره.بعين الصبي تابع بقدر ما استوعب محنة النزوح والتهجير القسري لآلاف الفلسطينيين من ديارهم إلى لبنان المجاور، استقر في خاطره سؤال الشاعر الكبير محمود درويش: «لماذا تركت الحصان وحيداً؟».
هما ابنا جيل واحد، متقاربان في السن، أولهما فلسطيني، وقد حمل بموهبة الشعر قضية بلاده طوال حياته، شأن شعراء فلسطينيين آخرين ألهموا فكرة المقاومة.
والثاني لبناني، حمل القضية نفسها بموهبة الصحافة إلى آخر الشوط من دون مساومة عليها، شأن صحافيين لبنانيين وعرب آخرين، ساعدوا في بناء وعي عام بأن القضية عربية بقدر ما هي فلسطينية.
هو رجل وجد في العروبة خلاص بلده، الذي انتزع من وطنه الأم سوريا باتفاقية «سايكس بيكو» وتأسّس على طائفية أنهكت حيويته رغم التضحيات التي بذلت.
هو رجل عنده قضية، عروبته معياره وفلسطين بوصلته. من يتحالف عليها فهو ضده.

خلال احتفال في نقابة الصحافة في مناسبة تحويل جريدة «السفير» الى شركة مساهمة عام 2011: طلال سلمان يقف أمام غلاف العدد الذي تلا محاولة الاغتيال عام 1984 (الصورة عن صفحة سلمان على فايسبوك)

هو ابن الأحلام الكبرى والهزائم الفادحة في العالم العربي منذ النكبة حتى الآن، لكنه لم يفقد حلمه أبداً ولا استسلم لهزيمة يوماً.
«بيروت تحترق ولا ترفع الأعلام البيضاء».
بدا ذلك المانشيت، الذي تصدر صحيفة «السفير» أثناء الاجتياح الإسرائيلي (1982) تلخيصاً رمزياً لحياته المهنية، معناها ورسالتها، في لحظة تقرير مصائر.
لم يغلق أبواب صحيفته، كما فعلت الصحف والمطبوعات الأخرى، ظل يصدرها تحت الحصار والقصف، داعياً إلى المقاومة حتى النفس الأخير... والحبر الأخير من دون رفع راية واحدة بيضاء. كاد أن يدفع عمره ثمناً لمواقفه حين جرت محاولة لاغتياله عام 1984 أمام منزله، تركت ندوباً وآثاراً على جسده.
تجربته المهنية فريدة من نوعها، صعد من أسفل السلم مصححاً ومراجعاً حتى اكتسب اسمه الكبير.
هو نموذج استثنائي للشغف بمهنة الصحافة، أعطاها وقته كله، اتسعت علاقاته في العالم العربي، وأصبحت صحيفة «السفير» التي أسسها عام 1974 عنواناً عربياً للبنان في لحظة تحولات جوهرية في حسابات ومعادلات الإقليم أعقبت حرب أكتوبر وبدء ما أطلق عليه «العصر الأميركي».
لخّص شعار «السفير»: «جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان» جوهر رسالته.
حين بدأت رياح الانعزالية تعصف بالعالم العربي، لم يتخل عن أفكاره وتوجّهاته وعروبته وبوصلته الفلسطينية.
بفضل «سفير طلال سلمان»، رفعت الصحافة اللبنانية رأسها في عالمها العربي مهنياً وسياسياً. قدمت أفضل الصحافيين والكتاب السياسيين إلى العالم العربي. العمل في «السفير» شهادة جودة مؤكدة. كان يكفي الانتساب إليها حتى تفتح الأبواب المغلقة للمشاركة في أي إصدارات جديدة طوال سنوات السبعينيات وما بعدها في الخليج أو أوروبا.
لم يكتسب صيته بضربة حظ، صنع اسمه بأظافره وبدأب شديد في صالات تحرير الصحف والمجلات التي عمل فيها.
لا يذكر لبنان إلا وتذكر «السفير» مكوّناً جوهرياً في قوته الناعمة. كان عددها الأخير مأتماً حقيقياً لكل من عرف قيمتها وألمّ بأدوارها.
تجربته استوفت زمنها وتحتاج الآن إلى إعادة فحص ودرس حتى تستبين الأجيال الجديدة فضل الآباء الكبار للصحافة العربية.
لم يكن رجل سياسة بالمعنى الحزبي، ولا عضواً نشطاً في أي جماعة سياسية، لكنه لم يكن يتردد في أن يعرب عن مواقفه وانتقاداته مهما جرت عليه من حملات تشهير اعتادها.
في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، نعى إلى القراء على صفحات جريدة «العربي»، التي كنت أترأس تحريرها، ما وصلت إليه الصحافة الرسمية في مصر من تردٍّ وتراجع، ونعى معها الدور المصري نفسه، قائلاً بحسرة لا تخفى: «كانت القاهرة عاصمتنا المركزية».
القاهرة عشقه الأول، يعرف خرائطها السياسية كما حواريها وأزقتها.
كل شيء فيها ملهم، أدبها وفنها وصحافتها. هكذا كانت.
منذ بدايات ثورة يوليو، انحاز إلى جمال عبد الناصر. عندما اختلفت الأحوال، لم تتغير بوصلته وانتماءاته.
عند كل محطة مفصلية بدا حاضراً ومؤثراً، من الانفتاح الاقتصادي عام 1974، وصعود من أطلق عليهم «القطط السمان»، إلى انقلاب الاستراتيجيات على إثر «كامب ديفيد» عام 1978.
يكتب كأنه مصري، يعرف دخائلها وأسرارها، ويتبنى أحلامها المجهضة.
ارتبط بصداقة عميقة وممتدة مع الأستاذ محمد حسنين هيكل، يحاوره بانتظام ويزوره على فترات متقاربة في مكتبه على نيل الجيزة، أو في بيت «برقاش».
قبل رحيل هيكل بوقت قصير، زاره في قرية الرواد في الساحل الشمالي وأجرى معه حواراً مستفيضاً عما يحدث في مصر مستطلعاً مستقبلها.
من ناحية إنسانية، لفتتني في ذلك الحوار إشارته إلى أحوال هيكل الصحية على إثر حادث تعرض له بالسقوط من على درج. كتب أنه يستخدم «الووكرز» في تحركه في بيته الصيفي.
لا اعتقد أنه استأذن في النشر ولا هيكل فكر أن يلفت نظره. كان ذلك تعبيراً عن المساحة الخاصة التي تربطهما.
بقدر آخر، اقترب مؤسس «السفير» من النخب الصحافية والثقافية المصرية وعرف عن قرب كل ما يتحرك بالحيوية والإبداع في البلد.
كاد أن يدفع عمره ثمناً لمواقفه حين جرت محاولة لاغتياله عام 1984 أمام منزله


ارتبط بصداقات مع كبار الصحافيين أمثال أحمد بهاء الدين وإحسان عبد القدوس وكامل زهيري ومحمد عودة ومحمود السعدني ومصطفى نبيل وجميل مطر.
ربما يكون قد تعلم من بهاء أن يولي عناية خاصة بالكاريكاتور السياسي، الذي كان سمة رئيسية في تجربة «صباح الخير».
استضافت صحيفته أسماء في حجم ناجي العلي الذي جسدت رسوماته مرارة سخرية الطفل الفلسطيني «حنظلة»، وأحمد حجازي وبهجت عثمان ومحيي الدين اللباد بخطوطهم الخاصة في عوالم الكاريكاتور. لم يكونوا مجرد رسامين، هم أصحاب مواقف ورسالات، كما «السفير» التي ارتبطوا برئيس تحريرها.
تعرفت إليه عن قرب في جلسات حوار في القاهرة تضم أصدقاء آخرين كلما حل ضيفاً عزيزاً عليها.
في كل مرة، لديه ما يقوله عن كواليس وأسرار الحكم في العالم العربي، فهو صحافي عتيد موضوعه الأثير، البحث عن الخبر.
وصف ذات مرة تجربته مع الصحافة بعبارة مقتضبة، صادقة وصحيحة:
«الصحافة فيها من شرف الرسالة، كما من المتعة، ما يجعلها تستحق عمرك».

* كاتب ومحلّل سياسي مصري