كانت البداية حلماً صعباً. وكان للطموح جاذبية. وكان للكلمة أمكنة، والأهم كانت المغامرة باسلة.في ذاكرتي أنّ «السفير» دخلت التاريخ في الزمن العربي الصعب. كانت الانهيارات متتالية. العروبة تُنحر بأيدي أبنائها. والأنظمة مصابة بالتسمّم والتكلّس. ولبنان على وشك أن ينفجر. لقد انفجر.
إنّ شعباً يأكل طعاماً جديداً بوعاء ذاكرته القديم، يتسمّم. كان الزمن العربي يتفتّت ويتراجع. وكان الزمن اللبناني يستعيد ماضيه لبناء حاضره. وكل ما لا يتقدّم، يتخثّر.
ذات صباح، أطلّت «السفير». مَن هذا الذي تجرّأ على المستحيل؟ كان طلال سلمان مصاباً بالأمل. يرى الغد مدى، والإمكان ليس معجزة. هناك فسحة لقول آخر، للغة جديدة، لصحيفة، تولد قوية، وقوتها منه، ومن الأفق الذي كان يعوّل عليه. عرفتها من خلال مَن اجتمع فيها وانتمى، ومن انضمّ إليها من أقلام عربية، كانت يومذاك، تضع فلسطين أولاً... فهي «صوت الذين لا صوت لهم». ولكم كان الصوت قوياً وحاسماً وجديداً.

في احتفال لـ «مؤسسة غسان كنفاني» عام 2012

طلال سلمان لا يؤمن بذاته فقط. جمع واجتمع حوله، منذ البداية، أصحاب هوى جديد، وفكر أصيل، وحالمون متمردون، ومؤمنون بأنّ التغيير ممكن، فلبنان بحاجة إلى لغة تتجاوز الكيان، بحاجة إلى من يساهم في إعادتهم من صحراء التيه السياسي.
لا يمكنني أن أقرأ طلال سلمان، من دون أن أقرأ مسيرة «السفير». هو الركيزة. هو عمودها الثابت. هو الساحر حتى آخر الصباحات، من أجل جديد لا يتكدّس، بل من أجل جديد يتحقّق... ولكن الأزمنة العربية بما لديها من رصيد الأفشال، نفت المستقبل. وأعادت الزمن العربي واللبناني إلى خنادق وبنادق واقتتال. إنّ ذاكرتنا ليست ماء على رخام. إنها دم حفر جرحه في اللحم الحيّ.
في الذاكرة أسماء لكتّاب ومفكّرين وشعراء ومسرحيين وسياسيين ومناضلين وملتزمين ومتنوّعين... كانت «السفير» تحية صباحية، تحية عربية على امتداد الحلم العروبي. هكذا كان طلال سلمان. يريد «السفير» سفيرةً للقضايا والشعوب والآمال. وكان يمتهن التعب، حتى تعب التعب ولم يتعب.... من كانوا معه وحوله تمتّعوا بحرية الالتزام. ما كانوا صوتاً واحداً. وهو كان يريد ذلك. صحيفة منفتحة باحترام، وملتزمة بصراحة. ولأنّ طلال سلمان، ابن عسكري، لم تتح له دوريات الجامعات واختصاصاتها، وجدناه مختصاً بالناس. السياسة لها حيزها، وللناس حيزهم المفتوح. كان منحازاً إلى الفقراء والفلاحين. يجالس الرؤساء والنواب والوزراء والمديرين والـ.... «السكريتاريا السياسية والحالية». لكنه لا يني يفكر بفلسطين، فلسطين عنده هي الآية. ولقد تلا الآية مراراً حتى أصدر ملحقاً بعنوان فلسطين.
هل كان طلال سلمان مختلفاً جداً؟
طبعاً، كان مؤمناً بعروبة حتى الثمالة. وظلّ هكذا حتى آخر صفحة من الجريدة. فلسطينه تخدم بالكلمات كما تخدم بالطلقات وراهناً بالطعنات وغالباً بالقبضات... هاجسه فلسطين. وعروبته تتكئ على عملاق عربي، اغتالته حزب حزيران، وحذفته حرب أكتوبر التي انتهت بالخروج من فلسطين وأعارتها لـ «التحالف الأميركي العربي». عضّ على جراح الهزيمة وشهر قلمه ضد اليأس. صار هاجسه اكتشاف الوسائل. ومن معه، كانوا يضيفون إلى هواجسه، إنجازات... بحيث أصبحت لـ «السفير»مكانة وحيز لبناني وعربي، ينافس، بل يضاهي صحفاً ذات تاريخ وعراقة.
هذا القادم من ريف البقاع، طاف، منذ طفولته، مناطق لبنانية متنوعة الهويات الدينية. والده العسكري يتنقل من مخفر إلى آخر. معه عائلته. وطلال مفتح العينين على الجديد.
عرف منذ صغره أنّ لبنانه صغير متعدد وجميل. وعرف أنّه منقسم، ليس طائفياً فقط، بل انقسامه السرّي هو: الأغنياء والفقراء. وهو كان حميميّاً مع هؤلاء. عقله يختزن وقلبه يتحسّس.
هو كتوم مقنع. ذلك أنّ اللبيب من الإشارة يفهم. لا يتباهى لكنه يعتزّ بما أنتجه. عندما يراجع يومياته، يتذكّر ويترحّم، على مَن كان معه في الحلبة. يحزن على الذين راحوا، يسامح الذين غادروا. كان يشعر بالغدر كلما غادر أحدهم من دون سبب وجيه.
أعرف الكثيرين من الذين يدمنون على قضية، أو مصلحة، أو... طلال سلمان كان مدمناً على الكتابة. مدمناً على المتابعة وعلى احترام المواعيد وعلى ضرورة اكتشاف الجديد. كتب الافتتاحيات وقلّما تخلّف عن ذلك. ساهم في الثقافة، بعدما سلّمها لخيرة الكتّاب والمسرحيين والشعراء والمدقّقين. كانت له زاوية ثقافية فيها. لا يتوقف عن إجراء الاتصالات الهاتفية المجدية. يطّلع، يريد أن يعرف. يريد أن يتابع، من دون أن يلغي مسؤولي الأقسام، السياسية والاقتصادية، والاجتماعية. أما زياراته العربية، فكانت مميزة.
كيف كان طلال سلمان إبّان الحرب اللبنانية؟ هو مع القضية الفلسطينية، وبرغم أخطائها وانتهاكاتهم، لم يطعنهم، ولم يغفر لمن أخطأ في حقّهم بالنضال. كان دائماً معهم، وأحياناً على مضض. أما الأنظمة العربية، فكانت تريد من «السفير» أن تقبل بالإملاء. كانت تغضب. كانت تهدّد. فجّرت المطبعة، وضعت العبوات، حاولت اغتياله. حجرت عائلته... وبرغم ذلك، وبرغم الدخان والجراح، ظلّت «السفير» مثابرة على نهجها، من دون إثارة أعدائها.
منطقه كان واضحاً. لا مهادنة مع «إسرائيل». إنّها عدو. نتعامل معها كعدو. لا مهادنة مع الطائفية. إنها عدو داخلي. إنّها مرض يفتك. هي أحد أسباب انهيار لبنان. لبنان الدولة وهم. من هم في سدّة المسؤولية، مسؤولون عن كل الخراب.
دائماً كان يتذكّر «وين كنّا ووين صرنا». كل ما يحلم به، انتهى إلى خراب. خراب داخلي. خراب عربي. خراب إعلامي. خراب سياسي.
عرف أنّ لبنانه منقسم، ليس طائفياً فقط، بل انقسامه السرّي هو: الأغنياء والفقراء


رمل هذا المدى لا يقبض عليه. وكم من مرة رأيناه يتألّم. ادعوه للخروج. كان يقول لي إني أتأمل ولا أريد أن أتألّم. إرادته أقوى بكثير من الواقع الذي تسرّب إليه الفشل.
«سفير» طلال سلمان ما كانت لتكون من دونه. هو عصبها. أول من يدخلها، وآخر من يؤوب إلى نومه. راهب مثالي، لقضايا مثالية وبوسيلة إبداعية: الصحافة.
ماذا يُقال بعد في طلال سلمان؟
يُقال الكثير.
راهناً، نحن مصابون بالثرثرة، بتخمة الأقوال. الأفكار مرمية وداشرة ومطرودة. الأخبار، من كل واد طائفي، ترد إلى العلن الإعلامي. الأفكار والأخبار شيء، ووضعها على الورق شيء آخر. الشاشات تمحي فيها الصدقية. الورق يصدق مع الخبر، لأنّه مكتوب بحبر وليس على الهواء.
لطلال سلمان مكانة الريادة الصعبة، وجرأة وضع النقطة الأخيرة لرحلة الأربع وأربعين عاماً من الصحافة. وأحبّ ما مرّ به طلال، إنّه بلغ الأقصى من الصعوبة: وهو عدم الكتابة.
طلال سلمان ماض لا يمضي.
المهم في تراثه الصحافي الكتابي أنّه باق، باق، باق وهو، وجميع من كانوا معه، بلا استثناء. ونصيبنا بعد إقفال «السفير»، أنها حيّة.
أنهي هذه الكتابة بما قاله روبير سكاربيت: «لكلّ بلد وجهان. وجهه الأسطوري ووجهه الحقيقي». الصحافة هي وجهه الحقيقي. هكذا يجب أن تكون الصحافة. هل هذا ممكن؟ هل نشبه صحافتنا؟ أو هل صحافتنا تشبهنا؟ «بعد بكير» على الجواب.
الأكيد أنّ صحافتنا في خطر لأننا لم نعد نشكّل خطراً حقيقياً. هناك من يريد قتل ذاكرتنا. فلنستعدّ للغياب.

* كاتب لبناني