تحمِّل الديناميّات العاطفية لوحات إيلي رزق الله طاقةً وشغفاً نراهما في المواضيع التي يختارها وتعكس حساسيته البصريّة اندفاعاً وخيالاً، ولو لم يراعِ جانب الدقة أحياناً. يرسم المنظر الطبيعي مرتكزاً على ثقافته ودراسته للون والشكل والتصميم، فهو متمكّن، وفرشاته صارمة تضفي نوعاً من الإثارة على سطح اللوحة، وهو مجازف في تصوّراته، مستكشف باستمرار، يسأل، يتحدّى، ويسعى إلى معنى جديد. يفيد من قدراته الخطيّة التي ترفع أعماله إلى مستوى بصريّ مختلف. يشكّل لوحاته من تفاعل الإيجاب والسلب واقترانهما، وتنسجم المساحات البيضاء غير المطليّة مع المساحات الأخرى ذات الألوان القوية، فتتناغم اللوحة بصريّاً.
«برج المرّ» (أكريليك على كانفاس ــــ 110 × 118 سنتم ـــ 2020)

معرضه الفردي الأول «تحوّل» المُقام في غاليري Mission Art (مار مخايل ـ بيروت)، يضمّ ستّاً وعشرين لوحة بالزيت والأكريليك والكولاج ذات أحجام مختلفة وذات ثيمة تكاد تكون واحدة تتركّز حول مبان وشوارع في بيروت أغرقها الفنان في ملوانة كثيفة وانطباع ذاتيّ وجدانيّ، وبعضها غُيّبت أجزاء منه مثل هياكل غير منجزة. كأنّ المدينة في رؤياه آيلة إلى زوال، مثيرة للقلق على مصيرها بسبب التدمير البطيء غير المباشر حيناً والمباشر حيناً آخر. يدعونا رزق الله إلى رحلة في بعض شوارع بيروت التراثية ومعالمها المعروفة، فنلمح عمارات تراثية تبثّ فينا هدوءاً وراحة كان ينعم بهما مجتمعنا العمرانيّ ماضياً. في المقابل، نرى أبراجاً حديثة تنبت كالفطر وسط تلك المنازل الأثرية الجميلة ذات الواجهات والقناطر. عمارة حديثة بشعة مقابل عمارة قديمة وافرة الجمال مريحة للعين والروح. لوحات أخرى تبرز آثار الحرب الأهلية في المباني المتصدّعة، وصولاً إلى الخراب المأساوي الذي خلّفه انفجار المرفأ. يرسم بيروت في مختلف حالاتها وأزمنتها ووجوهها، القبيح منها والبشع والمؤلم، لأنّها في نظره مدينة باقية وتحبّ الحياة. هي مدينة التناقضات التي تظهر في لوحة رزق الله تارة ًبتدرّجات اللون الرماديّ، وطوراً بتدرّجات اللون البنّي.
تعيد بيروت خلق نفسها في لوحات إيلي رزق الله الذي يقول إنّ مدينته أضحت هشّة، حتى إنّه لم يعد يعرفها. تبدّلت أحوال عمرانها وسكانها. تبدو في لوحاته مدينة غارقة في الكآبة والانشطارات العمودية والأفقيّة، كأننا في لعبة مرايا متعاكسة يتوالد فيها المشهد عينه، كاشفاً عن رثاثته غير الموحية بالراحة والطمأنينة إلى مستقبل المدينة، المناقض لماضيها البهيّ.
فرشاته صارمة تضفي نوعاً من الإثارة على سطح اللوحة


ريشة إيلي رزق الله واثقة، حرّة، طريّة الملمس. يده مطواعة، نديّة، ما مكّنه من خلق التناغم بين الجميل والبشع، بين الفرح بالقديم والقلق من الحديث الذي يطلّ بقرونه المرتفعة. كأنّنا حيال عنف هادئ ينطوي على غضب وأسى وحزن على المدينة التي تتعرّض لعملية «تقبيح» من رأس مال متوحّش لا يراعي الجمال والتاريخ وإرث العمارة الذي يميّز كل مدينة في العالم. فالجزء المرتفع القبيح من بيروت يمحو الجزء السفليّ منها. العمارة الشاهقة البشعة تسحق البيت الصغير الآسر.
إيلي رزق الله من مواليد دير القمر، البلدة التاريخية الجميلة، التي عاش طفولته وشبابه فيها، قبل أن ينتقل إلى بيروت لدراسة الهندسة الداخلية والديكور، وهما مجاله المهنيّ، والرسم شغفه، وله مشاركات عديدة في معارض جماعية داخل لبنان وخارجه.

* «تحوّل»: حتى 18 كانون الأول (ديسمبر) ــــ Mission Art (مار مخايل ـ بيروت) ـــ للاستعلام:03/833899