في اليوم الثالث عشر، كانت المجزرة التي حدثت أول من أمس في حيّ الشجاعية المكتظ بأكثر من مئة ألف فلسطيني. تحوّل الحيّ الغزاوي إلى قبر كبير مفتوح تحت وطأة القذائف الصهيونية. منذ البداية، تعاملت الفضائيات العربية مع الأمر كعادتها منذ بدء العدوان على القطاع من كان بعيداً من الحدث أكمل ابتعاده، كما لو أن شيئاً لم يكن. قناة «العربية» مثلاً أكملت تقديمها وثائقياً عن «القفز بالمظلات» بكل هدوء، مع العلم بأن المجزرة التي ذهب ضحيتها أكثر من 60 شهيداً تحدث في الوطن العربي الذي يُفترض أنّها تغطّيه وتغطّي أخباره على مدار الساعة. التلفزيون الرسمي الفلسطيني حاول تغطية الحدث، فقدّم، لربما مضطراً، خطاباً غاضباً للرئيس الفلسطيني محمود عباس.
عالمياً، لم يكن الأمر مختلفاً عن بدايات الأحداث كثيراً. فاليوم الثالث عشر لم يحمل شيئاً جديداً لقناة cnn مثلاً بخلاف تصريحات وزير الخارجية الأميركي جون كيري الذي تحدّث مجازياً بأنّ «حماس» تأسر دولة إسرائيل بكاملها.
حدث ذلك قبل معرفته بحدوث عملية أسر الجندي شاؤول آرون، فكيف كان المشهد كاملاً؟ حتى اللحظة، تتنافس «الجزيرة» و«الميادين» على الحدث الفلسطيني، وحدهما في الطليعة. «الميادين» تنافس فعلياً على شدّ المشاهد العربي، وتبدو البساطة والكلاسيكية نقطة قوّة للقناة التي تبثّ من بيروت. استعمال قصائد شعراء فلسطينيين وعرب (محمود درويش، أمل دنقل، سميح القاسم) بأصواتهم مرفقة بمشاهد حالية من غزة أو فلسطين عموماً، يشدّان المشاهد عاطفياً إلى حدّ كبير. بالعودة إلى المجزرة، غطّت «الميادين» ما حدث منذ لحظاته الأولى، كونها تغطّي العدوان على غزة بشكلٍ مُتكامل، ولم تبرُز مشكلات لدى القناة، وإن عابها أحياناً ثقل بعض برامجها، مثل برنامج «أجراس المشرق» (يقدّمه غسان الشامي) ذي الطبيعة البطيئة عموماً الذي لم يكن يناسب يوماً كهذا (أو برنامج «من الداخل» لمقدمته زينب الصفّار مستضيفةً أهل المناضلة راشيل كوري).

تتنافس «الجزيرة» و«الميادين» على الحدث الفلسطيني

كان المطلوب البقاء أكثر ضمن الجو العام للمجزرة وبالزخم والتغطية نفسيهما. «الجزيرة» بدورها غطّت الحدث بكل حرفيةً (نظراً إلى الخبرة الأطول في التعامل مع أحداث مماثلة)، وكانت ردة فعل مراسلها وائل الدحدوح العفوية والطبيعية كنزاً حقيقياً لأي وسيلةٍ إعلامية. بكاء المراسل صعب في المعتاد، ذلك أنه يشاهد ما لا يشاهده المتابع عادةً، وقلما يفقد المراسل اتزانه إلا إذا كان تحت وطأة ضغط لا يصدق. فقد وائل الدحدوح قدرته على النطق وبكى. تحوّل فيديو الحادثة نفسها إلى علامة مرفقة بالمجزرة بحدّ ذاتها، وطرأ السؤال، حتى من قبل أشدّ المنتقدين لما يحدث: لا بدّ من أن ما حدث في الشجاعية يختلف عن أيّ عدوان حدث في أيام سبقت كي يبكي المراسل بهذا الشكل. وسواء أكان الفعل طبيعياً (وهو المرجّح) أم مصنوعاً فإنه بالتأكيد جعل عدد متابعي القناة يتزايد، لأنّ طبيعة الجمهور تستهويه الأحداث المفاجأة التي لا يمكن السيطرة عليها. من جهتها، غطت القنوات العبرية ما حدث، لكن ليس على طريقة القنوات الخبرية بالتركيز على المجزرة. تتبّع إعلام العدو الحدث الأساسي من الزاوية التي تناسب قصة «جيش الدفاع» الصهيوني: «نحن هنا لاقتحام غزّة بكل قوتنا. إننا نفعل ذلك للدفاع عن الدولة وشعب «إسرائيل»، وليس من حقّ أحد سلبنا هذا الانتصار». وهو ما قاله حرفياً رئيس هيئة الأركان العامة في الجيش الصهيوني بيني غانتس في أحد مقاطع الفيديو على «القناة الثانية». أحد محلّلي «القناة الأولى» الصهيونية تحدّث عن ظاهرة الأنفاق واستعمال «حماس» لهذا السلاح بشكلٍ فعّال، مؤكداً أنّ أغلب إصابات الجيش الصهيوني كانت جراء ذلك، موجّهاً شكراً إلى «مصر السيسي» على تدميرها كثيراً من تلك الأنفاق، مشيراً إلى أنّ هذا التدمير جنّب الكيان العبري كثيراً من الآلام. المجزرة التي ما أطلّت كثيراً على التلفزة العبرية، سرعان ما جرى تناسيها ليحلّ مكانها خبر أسر الجندي شاؤول آرون، ما أنقذ هذه القنوات التي اعتبرت الحدث طوق نجاة. تلجأ القنوات العبرية إلى اللعب «عاطفياً» على دور الضحية والمظلوم، حتى أمام شعبها مبرّرة بشكل كليّ سلوك الجيش الصهيوني العنصري والدموي تجاه الفلسطينيين. عرّت مجزرة الشجاعية ذلك بشكلٍ فظيع، واستمرت التعرية ساعاتٍ عدّة، حتى تنبّهت تلك القنوات إلى خبر الأسر، فعادت القناة الثانية مثلاً، لتظهر عائلات الجنود الصهاينة الباكية الراجية عودتهم، الخائفة من وقوعهم في الأسر.
غربياً، عنونت صحيفة «إندبندنت» البريطانية «صراع غزّة_ اسرائيل: أصعب يومٍ يمر على غزة بعد مجزرة مخيفة». العنوان تعرّض لانتقاداتٍ عنيفة على مواقع التواصل الاجتماعي وانطلقت هجمات صهيونية ممنهجة عُرف في ما بعد أنّها تندرج ضمن أنشطة غرفة يتولاها صهاينة للدفاع عن الدولة العبرية. الأمر ذاته تعرّضت له قناة bbc (هيئة الإذاعة البريطانية) مع أنّها لم تستعمل عبارة «مجزرة» بل: «قصفٌ مروع تتعرّض له غزة اليوم هو الأعنف، و«القتلى» بالعشرات»، بحسب عنوانها. وانشغلت مثلاً قناة nbc بنقاش دور المراسل وتأثير الأحداث نفسياً عليه عطفاً على قضية نقل مراسلها أيمن محيي الدين (من أمٍ فلسطينية وأبٍ مصري يحمل الجنسية الأميركية ـ الأخبار 19/7/2014)، مبتعدةً من المجزرة كصورة أساسية، ومؤكّدة على لسان أحد مراسليها (جيم كلانسي) المساواة التامة بين الصهاينة (الجلاد) والفلسطينيين (الضحية) وبأن كليهما يتحمّلان المسؤولية بشكل متساو «من خلال الإصرار على استعمال الضحايا لغايات سياسية». «نيويورك تايمز» الأميركية من جهتها تعاملت بأميركية مع المجزرة، فعنونت: «أحياء دمرّت في اليوم الأعنف على الطرفين»، مؤكدة المساواة بين الطرفين. أما «واشنطن بوست» فحاولت التركيز على الدمار المادي في عنوانها نائيةً عن العنصر البشري، فاختارت عنوان «مشاهد مفزعة لأحياء مدمرة بعد قصف إسرائيلي عنيف». وكما يبدو من العنوان، لا إشارة إلى الشهداء على الإطلاق كما لو أنَّ هذه الأحياء كانت فارغة بالمطلق.



غرفة الـ «هاسبارا»

قبل أشهر، ظهر إعلان في جامعة حيفا يطلب موظفين «للعمل على وسائل التواصل الاجتماعي». لم يعرف كثير عن الأمر حتى بداية ما سمّي بـ«الجرف الصامد». تتلخّص مهمة هؤلاء الشبان في التصدّي للمواقع الإخبارية العالمية أو المحلّية التي تهاجم الكيان العبريً. وظهر تحقيق على موقع جريدة «يديعوت أحرونوت» الصهيونية متحدثاً عن الـ «هاسبارا» (حرفياً معناها البروباغندا التي تستعملها الحكومة العبرية. ويشير موقع «الانتفاضة الإلكترونية» إلى أن هذه الغرفة أنشأها بشكلٍ غير رسمي الجيش الصهيوني ويحاول تقديمها على أنّها جهدٌ «فردي_ تطوعي» لشبابٍ صهيوني جامعي يريد الدفاع عن «وطنه»؛ لكن الحقيقة أنّهم «كاذبون محترفون» و«متنمرون» إلكترونيون وقد ظهرت قوّتهم في تحوير «مجزرة الشجاعية» وحقيقتها الوحشية إلى مجرّد «تدمير أبنية وأحياء فارغة» بحسب صفحات مواقع التواصل الاجتماعي.