باريس | اختُتم أمس في قصر الـ«غران باليه» في باريس معرض الرائد في فن الفيديو الأميركي بيل فيولا (1951) بعدما شرّع الباب على أسئلة ما ورائية أساسية منها: «من أكون؟»، «أين أنا؟»، «الى أين أتجه؟». جاء ذلك من خلال استعادة 20 عملاً فنياً (50 شاشة وساعات من التصوير) في سابقة أولى يكرّسها هذا الصرح لفنان متخصص في تصوير الفيديو.عبر رحلة باطنية ذاتية، تطرح أعمال فيولا تساؤلات عن الحياة والموت والتسامي والولادة من جديد والزمن والفضاء. حضور الماء في أعماله مع تكرار الأجسام الغارقة والخارجة من الماء، يذكّران مجازاً بالولادة من خلال السائل السلوي وبانسيابية الحياة عبر حركة تولد من جمود أصبح هو نفسه حركة.
شكّلت رحلة فيولا الى اليابان عام 1980 برفقة زوجته ومنتجة أعماله كيرا بيروف، محطة انعكس تأثيرها على كامل مسيرته.

خلال الأشهر الـ 18 التي أمضاها في اليابان، درس الثقافة التقليدية للامبراطورية الآسيوية، والتقنيات الطليعية للفيديو. وكان لدراسته على يد معلم الـ zen دايين تاناكا أثر مهم في اغناء بحثه الروحاني من خلال الفن.
تعكس أعمال فيولا افتتانه باليابان والصوفية الشرقية (فكر الزن وابن عربي) وانخراطه في الممارسة التأملية منذ بداياته. تسكن أعماله مشاهد صحراوية («شط الجريد» رسم في الضوء والحرارة 1979، صُوِّر في تونس، و«السير على الحافة» 2012، و«اللقاء» 2012).
تجريد المشاهد الطبيعية يحضّر المشاعر والأحاسيس ويكثّفها. يعتقد فيولا أنّ «المناظر الطبيعية» هي «الرابط بين الأنا الداخلية والأنا الخارجية». في هذا السياق، يتشكل المسار الابداعي عند بيل فيولا من خلال النظرة. «مع الفيديو كانت ولادتي» يقول، ويحثنا على «التعلم مجدداً كيف ننظر». نظرة مجردة وتأملية لذاته تندمج لاحقاً مع نظرة المتلقي، أي الزائر، وتدفعه إلى مقاربة «اللغز»، أي الحياة والموت من دون اقتراح أي جواب على المسائل المطروحة بعيداً من التأمل الظاهر في الصور. الناظر هو أيضاً المنظور حيث نلاحظ فوراً من خلال أول تجهيز («الحوض المرآة» 1977-1979) مساراً عن التمثيل الذاتي في بحث فني روحاني.

يصف المناظر الطبيعية بأنّها «الرابط بين الأنا الداخلية والأنا الخارجية»

لكن الروحانية ليست «ايمانية». إنّها «لغز» كما تعرف الكلمة في القديم. يستعيد فيولا فكر القدامى كمرجعية مع هامش نيو كلاسيكي أو مقاربة صوفية توحيدية من خلال فكرة ويليام بلايك: «لو كانت ابواب الادراك مشرعّة، لبدا كل شي كما هو، غير محدود».
يتخطى الخلود النطاق الفردي ليدخل مضمون الجنس البشري الجماعي، مضمون الكائن الزائل في انصهاره وانتمائه للمجموعة والطبيعة من خلال تعاقب الفصول كما في «غرفة كاترين» (2001، متعددة الأجزاء على خمس شاشات تصور كل منها امرأة في مراحل مختلفة من النهار، ومن النافذة نرى أثر الفصول عبر شجرة)، والحياة عبر الأجيال، («أربع أياد» 2001، متعددة الأجزاء على خمس شاشات تعكس خمس أياد لاشخاص من عائلة واحدة واعمار مختلفة) والتجدد الدائم للجنس البشري.
من خلال الطريقة نفسها، نرى في مقاربة فيولا للفن الكلاسيكي، رغبة في الانخراط في ذاكرة العالم. إحالاته «عابرة للفن» إلى غويا («غفوة المنطق» ـ 1988)، وجيروم بوش (The Quintet of the Astonished 2000) وغيوتو من خلال العمل الرائع «الخروج الى النهار» (2002) الذي يشكل مجموعة جدارية من اللوحات الرقمية تذكر برسومات غيوتو الجدارية في «بازيليك القديس فرنسوا الاسيزي».
بذلك، يُفهم المرء عبر الزمن. حرية الوجود والتفسير تتكون في تأمل المطلق. صورة الفيديو عند فيولا هي شبه تصويرية لشدة بطئها، كأن الفنان «ينحت الوقت». وبالتالي، فالجمود هو نفسه خلود، أي زمن.
الفيديو هو الوقت، نظراً إلى حتمية كونه تطوراً للصور. إدراك الوقت يتكون عبر تأمل العمل الفني الذي هو نفسه في حال تأمل (انعكاسية للذات). بينما يقفز مؤدي «الحوض المرآة» في الهواء ليغطس في الماء، تتجمد صورته، لكننا نرى تدريجاً انعكاسه يتحرك في الماء. لدقائق طويلة، لا شيء يتغير أو يتحرك. يختبر المشاهد حالة الجمود قبل أن يَدخل الحركة التي تفتعلها، كما في كل مرة، حركة المياه بعد نسمة هواء تهبّ على الحوض.
صوت المياه وانسيابها، من قطرة تتكسر على سطح الحوض الى المياه الغزيرة، («صعود تريستان»، 2005) والأمطار أو الطوفان («الخروج الى النهار» 2002) هي الحدود بين المسافات (ثلاث نساء» 2008). ترسم المياه حدوداً قابلة كلها للاختراق وأشكالاً تحضّر تقلبات المؤدين وتبدل جندرهم («التخلي» 2001، ثنائي بالالوان يعرض على شاشتين متصلتين تجسد إحداهما رجلاً والأخرى امرأة)، ونرى العبور من الكيان الارضي الى الكيان المائي كما نرى في «الحالمون» (2013) حيث مجموعة شاشات تقدم رجالاً ونساء يتمتعون بقدرة غير واقعية للعيش تحت المياه، يرتدون ملابسهم تغمرهم المياه وهم في وضعية التمدد. هم في حالة «انقطاع النفس» بين الحياة والموت، الحقيقة والخيال.
تصبح المياه وصوتها أداة مونتاج (آن- ماري دوغيه) تدفعنا في الاعمال المتعددة الى تحويل نظرنا من شاشة الى أخرى. وبذلك يتمكن بيل فيولا بتقنيات وجماليات عالية من إعادة رسم مسار الخلق من خلال ابسط يوميات كائن يصوَّر وحيداً خارج العلاقات الانسانية التي ينسجها مع محيطه، وبعيداً من ضجيج الاستهلاك والمدن الكبرى كما هي حال شاشات التلفزيون والتسويق الذي تروِّج له. فقد ناضل فيولا ضدها منذ بداياته مع جيله من رواد فن الفيديو.