مطالعة كتاب «إيران وهوليوود: القوة الناعمة لصناعة صورة الآخر» (دار رياض الريس ــ 2022) فرصة لمشاهدة أفلام هوليوود من منظار جديد تساؤلي غير استهلاكي، كي لا تكون هوليوود أشبه بحصان طروادة الترفيهي في المجتمعات المتلقية. حول هذا الهدف، يتمركز كتاب الباحثة حوراء حوماني الذي يدور في فلك المدرسة النقدية التي تشرّح الإنتاجات الثقافية والفنية في المجتمعات الاستهلاكية وتفكّكها، وصولاً إلى تحليلها وفق سياقاتها. يتضمن الكتاب سبعة فصول، تجيب عن إشكالية: كيف تتم صناعة وتوظيف القوة الناعمة الأميركية في سينما هوليوود التي تتناول إيران، وعلامَ تركّز الأفلام في اتجاهاتها التصويرية لقوتها مقابل تشكيل صورة الآخر/ العدو بين الأعوام 1979 و2016؟ يزخر الكتاب بمقارنات القوة الناعمة بكل من الغزو الثقافي والحرب النفسية والدعاية والديبلوماسية وغيرها من المفاهيم التي سادت وحكمت العلاقات بين الدول خلال الحرب والسلم في القرن الماضي ولا تزال. تحلّل الكاتبة أوجه الشبه والاختلاف بين القوة الناعمة وهذه المفاهيم. لكنها لا تكتفي برصد ما قبل القوة الناعمة، بل تفرد مساحة لتفنيد ما يسمى ما بعد القوة الناعمة بتشعباتها. تكمن بصمة الكتاب في إسقاطه أنواع الدعاية على القوة الناعمة، فكما أن الدعاية تشمل الدعاية البيضاء والرمادية والسوداء، تستنتج حوماني أن الأمر كذلك بالنسبة إلى القوة الناعمة، إذ تتنوع بين قوة ناعمة بيضاء وأخرى رمادية وثالثة سوداء، تاركة الباب مفتوحاً لتصنيف القوة الناعمة الأميركية تجاه إيران وفق نتائج الدراسة الكمية والنوعية للخروج باستدلالات مستندة إلى أطر علمية دقيقة. وبرغم الاعتراف العالمي بصعوبة قياس القوة الناعمة وتحويل مواردها إلى أرقام كمية لأنها ذاتية غير موضوعية، كما أنها سريعة الزوال، إلا أن الكاتبة تذكر جهتين عالميتين تقومان بهذا القياس سنوياً ولكل منهما معاييره في التصنيف.


ولأن تحليل ومناقشة الإنتاجات الثقافية والفنية والترفيهية لا تصلح بعيداً من سياقاتها التاريخية والسياسية، تفرد حوماني صفحات للحديث عن «تاريخ الصراع بين أميركا وإيران وأدواته الناعمة»، مسلطةً الضوء على العلاقات بين إيران وأميركا منذ عشرينيات القرن الماضي وحتى الآن، ومفصلةً أسباب الصراع بين البلدين والرؤى المتنوعة حول حقيقة هذه الأسباب سياسية كانت أو اقتصادية أو دينية أو حضارية، بالإضافة إلى تعداد خيارات أميركا في التعامل مع الملف الإيراني ما بعد الثورة الإسلامية التي لطالما طرحت على بساط النقاش في أميركا من المواجهة العسكرية إلى اتباع سياسة الاحتواء فالقوة الناعمة. بدأ هذا الصراع بعد سقوط الشاه محمد رضا بهلوي بفعل الثورة الإسلامية عام 1979 وانحصار السيطرة على ثروات إيران بيد الحكم الإسلامي الجديد، ما حرم أميركا من نهب خيرات تلك البلاد بعدما كانت تصنَّف «أهم منطقة من الوجهة الاستراتيجية في العالم»، و«جائزة حيوية لأي دولة معنية بممارسة النفوذ أو السيطرة عالمياً». لذا، انقلب التصنيف 180 درجة إلى دولة راعية للإرهاب بسبب دعمها حركات المقاومة ضد الكيان الصهيوني في الشرق الأوسط. تهدف حوماني من هذا العرض التاريخي السياسي إلى رسم صورة متكاملة عن هذه العلاقة لتوظيفها ختاماً في فهم نتائج الدراسة وأهم القضايا التي ركزت عليها الأفلام. وتقدم أمثلة في خضم تعداد أدوات القوة الناعمة تجاه إيران بدءاً من جمعيات المنح التعليمية الموجهة إلى الطلاب الإيرانيين، مروراً بالمنظمات غير الحكومية، وصولاً إلى مراكز الأبحاث والدراسات، والمنظمات الدولية، إلى جانب الوسائل الإعلامية: الإعلام الافتراضي، الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، الألعاب الإلكترونية، والسينما.
انطلاقاً من اعتبار أنّ «أميركا هي جمهورية التسلية، والأفلام حجارة الزاوية النهائية والأسلحة الفعّالة لهذه الجمهورية»، كان التركيز على أداة السينما من وجهة دراسة الكاتبة ضمن مجمل أدوات القوة الناعمة الأميركية تجاه إيران، إذ «لطالما اعتُبرت منتجات هوليوود أعظم السلع الأميركية المصدرة رواجاً واختراقاً للآخر ثقافياً وسياسياً»، خصوصاً بالاستناد إلى دورها في تسويق السياسات الأيديولوجية الأميركية من النواحي السياسية والاجتماعية والعسكرية وتقديم النموذج الأميركي المثالي وتلميع صورة الجيش القوي. وتستعيد الكاتبة شواهد حول عمليات شيطنة كل من صُنّف عدواً من وجهة النظر الأميركية من السوفيات والألمان والعرب والفرس، وصولاً إلى توثيق ذلك فعلياً في الكتاب بعد تحديد إيران كعدو «تجب معاقبته». وتحلل الكاتبة في الإطار التطبيقي من كتابها 24 فيلماً أنتجت بين الأعوام 1979 و2016 وركّزت على إيران ضمن تحليل كمي ثم تحليل نوعي. الأول يفصّل بطاقات الأفلام، القضايا والموضوعات التي تتناولها، واتجاهاتها العامة، وصور أطراف الصراع في الأفلام. أما التحليل النوعي، فيشمل الصور والرسائل التي يكرّسها الفيلم، والعلاقة المحتملة بين الفيلم والأيديولوجيا المسيطرة في مكان إنتاجه، الأطر الإعلامية المستخدمة (الظلم، التعاطف، إضفاء الشرعية، نزع الشرعية)، والعناصر السينمائية المعتمدة في كل فيلم (التشويق، الضحك، العنف، الأمل، العزيمة، العري، الجنس والنهاية السعيدة)، ومن هذه الأفلام: Not without My Daughter، وArgo، وRosewater، وSeptembers of Shiraz. وترتكز الكاتبة في تحليلها على إطار نظرية فرانكفورت النقدية، مستتبعة خطى نظرية الإمبريالية الثقافية بما تنطوي عليه من أمركة للآداب والدفع نحو تحلل المجتمعات المستهدفة، معتمدةً كذلك على نظرية التفوق العرقي/ الاستعلائية التي تطبع مجمل إنتاجات هوليوود ليس فقط تجاه إيران، إنما تجاه كل من صُنّف أو يصنف عدواً في الماضي والحاضر من أعراق أو دول أو أيديولوجيات.
وتجد الكاتبة أخيراً «ربطاً قوياً أكدته الإحصاءات والاتجاهات ومضامين التحليل بين أداة السينما كقوة ناعمة وبين الدور البروباغندي الذي اضطلعت به هوليوود لعقود، والذي لم تخرج من إطاره حتى الآن، فنجد أن أميركا أجادت لعب دور المتحكم الخفي في رسم وتشكيل صور الآخر/ العدو في أذهان الرأي العام العالمي». ففي حين تركّز بعض الأفلام على إيران «راعية الإرهاب والمتشددة والقمعية»، يتم إظهار وجه أميركا «الحضاري والمتقدم والجذاب ومحارب الإرهاب وداعم الحريات»، مع عدم الإشارة -ولو في فيلم واحد- إلى إيران في وجهها المتقدم علمياً أو تكنولوجياً. وهنا يبرز دور القوة الناعمة للأفلام في تكريس هذه الثنائيات المتضادة بين أميركا والآخر كقوالب مصبوبة، إيجابية عن الذات الأميركية وسلبية عن العدو الإيراني/ الفارسي. ويشكّل طرح هذه الازدواجيات في الحكم والتعبير والإخراج إعادة لتكريس معادلة الخير والشر، أنا والآخر-العدو في السينما.
لطالما اعتُبرت منتجات هوليوود أعظم السلع الأميركية اختراقاً للآخر ثقافياً وسياسياً


وهنا، لا بد بحسب الكاتبة من «النظر إلى القوة الناعمة بطريقة جديدة وتعديل مفهومها، خارج إطار البراءة التي روّج لها لسنوات من خلال تصنيفها بين قوة ناعمة سوداء ورمادية وبيضاء»، وكذلك زيادة الشك اليقيني بـ«زيف الادعاء بمحايدة النص» أو أي إنتاج فني أو ثقافي مطروح، بخاصة مع ملاحظة التركيز الإعلامي على خطابات دون غيرها، ما يضعنا أمام سؤال جوهري تستعيره الكاتبة من مفهوم «الحضور والغياب» للفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو: «لماذا ننتج خطابات بعينها ونسمح بتداولها على أنها خطابات الحقيقة ونمنع أخرى؟». وتفتح حوماني -في نهاية كتابها- الآفاق لدراسات توثق للمرحلة الحالية حين احتدام الصراع بين البلدين وتوظيف الإعلام في ذلك، إلى جانب إمكانية دراسة أثر استخدام أداة السينما على الداخل الإيراني.

* في إطار «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب 64» الذي ينطلق السبت المقبل، توقّع حوراء حوماني كتابها «إيران وهوليوود: القوة الناعمة لصناعة صورة الآخر» (رياض الريس ــ 2022) يوم الأحد 4 كانون الأول (ديسمبر) في جناح الشركة (بدءاً من الرابعة بعد الظهر حتى السابعة مساء) ـ مركز بيال للمعارض.