من الأفضل بكثير عدم معرفة الأشياء السيئة والفساد الذي يحدث في كرة القدم لكي تحب فريقك وتدعم منتخبك بدافع البراءة والحب. من الأفضل عدم معرفة أجور اللاعبين والصفقات التجارية بين الفرق، وتسلّل السياسة إلى الكرة التي نحب. كثيرون ممن يعشقون كرة القدم يهربون من كل هذا. يوجهون أنظارهم فقط إلى الملعب الأخضر ويتناسون ما يحصل خارجه. كرة القدم تثير المشاعر، وأيضاً تدر مليارات الدولارات إلى جيوب النافذين. بعض هذه المليارات توضع بأمانة بعض الأشخاص الخطأ، وهذا لا يجلب العار فقط لهذه الرياضة، ولكن أيضاً يكلف حياة مئات الأشخاص، ولا نتكلم هنا فقط عن مونديال قطر 2022، بل أيضاً عن جنوب أفريقيا (2010)، والبرازيل (2014) وطبعاً الأرجنتين (1978) وغيرها. مع بدء الانغماس في روح بطولة العالم لكرة القدم، تعرض لنا منصة نتفليكس وثائقي «حقيقة الفيفا». «الاتحاد الدولي لكرة القدم»، هذه الهيئة المنظمة للعبة كرة القدم في العالم، تضع حكومات ورؤساء وبلداناً تحت رايتها، وتشهر البطاقات الصفراء والحمراء بوجه كل من يحاول مساءلتها، وتطلق صفاراتها المدوية ليسمعها كل من يجادلها.«حقيقة الفيفا» عبارة عن سلسلة (أربع حلقات) وثائقية تتبع القواعد المعتادة لهذا النوع من الإنتاج، من دون تجاوز الخطوط الإشكالية الرئيسية. مع ذلك، فإن التوثيق مهمّ بما يكفي لنشاهد فصوله الأربعة. منذ نشأتها، كانت شرعية الفيفا محلّ تساؤلات. هنا نتحدث عن فضائح الفساد التي هزت كرة القدم في العقود الأخيرة: استغلال النفوذ، الرشوة، الابتزاز، هدايا، وجوائز تُسلَّم باليد لصالح قلة. نتفليكس سجّلت هدفاً في هذا الوثائقي. على الرغم من أنه ليس مدروساً جيداً، إلا أنّ وصوله إلى المصادر والصحافيين وأصحاب نفوذ داخل «الفيفا»، يجعله نقطة انطلاق لفهم بيروقراطية وديكتاتورية كرة القدم. يتبع الوثائقي تاريخ الفيفا، منذ ولادتها عام 1904، وعلاقتها بالعلامات التجارية مثل «كوكاكولا» و«أديداس»، وصولاً إلى مونديال قطر. الوثائقي يحمل توقيع المخرج البريطاني دانيال غوردن، الذي أنجز العديد من الأعمال الرياضية المماثلة («لعبة حياتهم» 2001)، وحقّق نجاحاً كبيراً بشريطه الوثائقي «جورج بست بنفسه» (2017) عن اللاعب الإنكليزي الأسطوري جورج بست. على الرغم من أنّ شريطه «حقيقة الفيفا» لا يوفّر فعلياً أي معلومات جديدة تتعلق بفضائح الفساد داخل «الاتحاد العالمي لكرة القدم»، إلا أنه يقدم ملخصاً للفضيحة بأكملها، مُرفقة بتصريحات الفاعلين والمتهمين الرئيسيين الذين يعرضون جانبهم من القصة.
تعيدنا السلسلة إلى السبعينيات، عندما جاء البرازيلي جواو هافيلانج لرئاسة الفيفا، وبدأت عملية تحويلها من منظمة للهواة إلى إحدى أقوى المنظمات في العالم. سنرى كيف منح هافيلانج كأس العالم في عام 1978 للأرجنتين، التي كان يزعمها خورخيه فيديلا الذي وصل إلى السلطة بعد انقلاب عسكري قبل ذلك بعامين. كما نرى كيف قام رئيس شركة «أديداس» هورست داسلر برشوة هافيلانج، وحصل على الحقوق التجارية والتسويقية لشركته ISL حتى عام 2001، عندما أعلنت إفلاسها. لسنوات، كان جوزيف سيب بلاتر اليد اليمنى لهافيلانج، ثم تولى منصب الرئيس عام 1998. خلال الانتخابات، تنافس كل من بلاتر، ورئيس «الاتحاد الأوروبي لكرة القدم» آنذاك، لينارت جوهانسون. لكن بلاتر تمكن من حصد أصوات عدد معين من الاتحادات الوطنية الأوروبية وعدد كبير من الاتحادات الأفريقيّة، ووعد بتنظيم كأس العالم في القارة السوداء. حقق بلاتر وعده بعد انتخابه، ومنح كأس العالم لجمهورية جنوب أفريقيا عام 2010، وفي كل هذا كان مدعوماً بشكل كبير من قبل ثنائي مثير للجدل من «اتحاد أميركا الشمالية والوسطى والبحر الكاريبي لكرة القدم»، جاك وارنز وتشاك بليزر. من هنا بدأ بلاتر بتثبيت قدميه أكثر كرئيس للفيفا من عام 1998 حتى عام 2015.
الجزءان الأوّلان من السلسلة يشرحان على عجالة، ما سبق ذكره بدقة. يقدمان الخلفية اللازمة لنصل إلى الحاضر، ونفهم أبعاد العفن المختبئ في تنظيم كأس العالم والمكتسبات والقوة التي منحتها للجميع للإفلات من العقاب. يتضمّن الوثائقي مقابلات مع أشخاص متورطين في ما حدث كرئيس الفيفا السابق سيب بلاتر، والرئيس الحالي جياني إنفانتينو، وأعضاء رئيسيين في الفيفا أمثال جيروم فالكي، وجوكا كفوري، وريكاردو تيكسيرا، وميشال بلاتيني، ومحمد بن همام وغيرهم. في الجزء الثالث، نفهم الرهانات المالية وخلفيات اختيار قطر كمكان لاستضافة كأس العالم. بشهادة بلاتر نفسه، يخبرنا بأنّه ليس مسؤولاً عن الفساد في الفيفا، وهو ينام بضمير مرتاح. ويستنكر الأمين العام لـ «اللجنة العليا للمشاريع والإرث» القطرية حسن عبد الله الذوادي، الانتقادات «غير العادلة» والاتهامات التي تلقتها قطر عند اختيارها لاستضافة كأس العالم. يرينا الوثائقي الحرب الكبيرة بين بلاتر والقطري محمد بن همام عندما حاول الأخير منافسة بلاتر لرئاسة الفيفا، وأدى ذلك لانسحابه من المنافسة ومن الكرة بشكل عام. الفصل الثالث هو ذروة السرد في التحالفات والرشوة والاحتيال التي بلغت ذروتها باستضافة قطر للكأس. يتحدث موظفون سابقون في «الفيفا» وأعضاء في اللجنة التنفيذية عن الفساد ونجاح العرض القطري، ويسردون قصصاً عن المفاوضات والظروف المليئة بالنقود التي تتجول في الفنادق. لكنّ القطريين بدورهم يواظبون على نفي كل شيء. يجادل الوثائقي كيف لعب ميشال بلاتيني الرئيس السابق لـ«الاتحاد الأوروبي لكرة القدم»، دوراً مهماً في منح قطر الاستضافة. يقال إنّه قبل تسعة أيام من التصويت، تناول نجل أمير قطر الغداء مع رئيس فرنسا آنذاك، نيكولا ساركوزي، الذي تدخّل شخصياً لإقناع بلاتيني بدعم قطر. لكن الأخير قال إنّه قرر دعمهم حتى قبل لقاء ساركوزي. الملفت أنّه في تلك الفترة، اشترى القطريون فريق «باريس سان جيرمان»، وأبرموا صفقة مع شركة «إيرباص»، واشترت شبكة «بي. إن. سبورت» حقوق بث الدوري الفرنسي، كما ابتاع سلاح الجو القطري آلات حربية فرنسية تقدر قيمتها بنحو 14.6 مليار دولار.
في الفصل الرابع، تبدأ التحقيقات العملية من قبل المدعي العام في نيويورك ومكتب تحقيقات «الفيفا» ومكتب التحقيقات الفدرالي. لم تكن استضافة قطر للكأس السبب الوحيد للتحقيقات.
الفصل الثالث هو ذروة السرد في التحالفات والرشوة والاحتيال

كل ما حصل في الماضي لعب دوراً في ذلك. أحد مسؤولي كرة القدم الأكثر إثارة للجدل، الأميركي تشاك بليزر، قدّم معلومات كافية لمحاكمة ما يصل إلى أربعة عشر شخصاً واعتقال سبعة من مسؤولي «الفيفا» في عام 2015، بتهمة الرشوة والابتزاز والاحتيال وغسيل الأموال. وقد أظهرت التحقيقات كيف أن الفيفا تعمل كمنظمة إجرامية على مستوى عالمي، وضعت دولاً بأكملها على الحبال، مستفيدة اقتصادياً من حالات الفقر في المناطق الأكثر حرماناً. وأحد العناصر الأكثر إثارة للاهتمام هو «الغسل الرياضي»، تلك الممارسة التي تستخدم الحكومات من خلالها الرياضة لتحسين سمعتها.
على الرغم من المؤامرات المعقدة لشراء الأصوات وحقوق كرة القدم والألعاب المالية والاقتصادية، إلا أن الوثائقي تمكّن من شرحها بوضوح. «الفيفا»، مؤسسة قوية اقتصادياً تدّعي انحيازها السياسي على الورق فقط، كما كان يكرر جواو هافيلانج: «السياسة وكرة القدم لا يجتمعان». لكن الحقيقة أنّ حيادها المزعوم هو في المظهر فقط، ومن الصعب كسر الصلات بينها وبين عالم السياسة. الفساد في «الفيفا» ليس فساداً إدارياً أو فردياً، إذ يكشف الوثائقي أن كل الدول مشاركة في هذا الفساد، بل إنّ المدير الإعلامي السابق لـ «الفيفا» غويدو توغنوني لخّص الوضع بجملة: «إذا سألت ما إذا كانت الفيفا يمكن أن تنتهي من الفساد، عليك أن تسأل ما إذا كان الفساد يمكن أن ينتهي في العالم كلّه. لا، لا يمكن ذلك، هذا مستحيل».
الوثائقي مؤلم لكل شخص يحبّ كرة القدم، ومشاهدته مع بداية المونديال، سوف تجعلنا ننظر إلى كرة القدم بطريقة مختلفة. لكن أكثرية من يحبون كرة القدم، سيتناسون ذلك حالما تتعلّق أنظارهم بالساحرة المستديرة في الملعب.

* FiFA Uncovered على نتفليكس