تقديم وترجمة: محمد شحادة
لَمْ يَكُنْ زيدان يَنْظُرُ إلى سَماء برلين دونما تفكير في شيء ما، سماء بيضاءُ بسحب رمادية، بانعكاسات زرقاء، كانَ زيدان ينظُر في السماء، فوقَ المَلعب الأولمبي مساء 9 آب (أغسطس) 2006، شعرَ بقوة وجوده هناك، ببساطة هنا في الإستاد الأولمبي لبرلين، في هذه اللحظة بالذات: مساء نهائيّات كأس العالم لكُرَة القَدَم.

من دون شَك، في ذلك المساء، لم تكن سوى مسألة تَجسيد من جهة، وحزن من جهة أخرى، حيث كانت ركلة الجزاء المحوّلة في الدقيقة السابعة بطيئة، لامست «بانينكا» العارضة لتعبر خط المرمى، فتتخطاه مباشرة، وبوضوح الهدف، لمسار البلياردو الذي كان يعاكس بالفعل تسديدة جيف هيرست الأسطورية في ويمبلي عام 1966. لكن هذه لم تكن سوى اقتباس، تحية غير متعمّدة لسلسلة أسطورية من كأس العالم. الحركة الحقيقية لزيدان في مساء هذا النهائي كانت مفاجئة، مثل تجاوز الكرة السوداء في الليل الموحش، التي لم تظهر إلا متأخرة لتجعلنا ننسى الباقي في نهاية المباراة والأشواط الإضافية، الهدف والفائز، لفتة مصيرية، وحشية، ونثرية وروائية: لحظة غموض مثالية تحت سماء برلين، عدة ثوانٍ من التناقض حيث الجمال والسوداوية، العنف والشغف، احتكّا سوياً، وأحدثا تياراً لحركة غير معتادة.

دوغلاس غوردون وفيليب بارينو. «زيدان: بورتريه من القرن الحادي والعشرين» (2006)

أخذت رأسية زيدان حيز المفاجأة. إذ لم تأخذ سوى ثوان لتكتمل، لكنها لم تأت سوى بعد عملية بطيئة وولادة غير مرئية وسرية. حركة زيدان تجاهلت التصنيفات الجمالية أو السامية، فهي تجاوزت التصنيفات الأخلاقية للخير والشر، فلا قيمتها، ولا قوتها ولا جوهرها باستطاعتها أن تختزل اللحظة الزمنية الدقيقة حيث حدثت. تياران ممتدان من تحت الأرض قد حملهما من بعيد جداً. الأول، عميق، صامت، قوي، لا يرحم، ناشئ من الحزن الخالص بقدر من الإحساس المؤلم مع مرور الوقت، مرتبط بمأساوية النهاية المعلنة لمرارة اللاعب الذي خاصم آخر مباراة في مسيرته، عاجزاً عن حلها في النهاية. زيدان لا يمكن أن يُنهي نفسه، هو على دراية تامّة بمخارج كاذبة «ضد اليونان» أو في المغادرة الفاشلة ضد «كوريا الجنوبية». كان هناك دائماً استحالة وضعه ملفاً لنهاية مسيرته، وتحديداً في ما يخص الجمال، لأن النهاية الجميلة مع الأسف هي نهاية أيضاً، هي نهاية الأسطورة: للتلويح بكأس العالم إنه تقبّل لموته، بينما يؤجل خروجه وترك وجهات نظر مفتوحة غير معروفة على قيد الحياة. التيار الثاني الذي حمل إيماءته، هو تيار متقابل ومتناقض، يتغذى على فائض من الأترابيل ومن تأثيرات زحل، هو الرغبة في إنهائها بأسرع وقت، الرغبة من دون ضغط لترك الملعب مباشرة والعودة إلى غرفة تغيير الملابس: «لقد غادرت فجأة ودون إخبار أحد» (جان فيليب تويسان، الحمام) لأن التعب موجود، إرهاق مفاجئ، لا يقاس. الكتف الذي يؤلم زيدان، لم يقوَ على التسجيل، لا من زملائه ولا من خصومه، لم يعد قادراً على تحمل العالم ونفسه. مرارة زيدان هي مرارتي، أعلمها، وأعترف بها. أصبح العالم معتماً، والأطراف ثقيلة، «والساعات بدت أطول، أبطأ، لا نهاية لها» (جان فيليب تويسان، الحمام)، شعر أنه منهك، وأصبح ضعيفاً «شيء بداخلنا ينقلب علينا» (جان ستاروبنسكي، حبر الكآبة). وفي نشوة تعبنا وقوة غضبنا، زيدان لم يكن باستطاعته إلا أن ينفذ مشهد العنف الذي حرره، أو الهرب الذي يشفيه، غير قادر أن يخرج غضبه بطريقة أخرى. إنها الرحلة الأخيرة قبل إنجاز العمل. منذ بداية ركلات الترجيح، وبطريقة ما، واصل زيدان التعبير عن تعبه دون وعي منه مع شارة القائد الذي يستمر في السقوط، عصبة كتفه التي تنهار ولا تتوقف عن إعادة التكيّف بشكل مستمر على ذراعه. لكنّ زيدان يريد ـ رغماً عنه ـ ترك الملعب والعودة إلى غرفة الملابس. لم تعد لديه الوسائل، أو القوة والطاقة والإرادة للقيام بانقلاب أخير، آخر إيماءة رمزية-رأسه بكل جمالية مدفوعاً ببوفون بعد عدة ثوانٍ فتح له عينيه للتأكيد على عجزه الذي لا يمكن علاجه. الشكل الآن يقاومه- وهذا غير مقبول بالنسبة إلى الفنان، «فنحن نعرف الروابط الحميمية التي توحد الفن بالحزن» (فرويد، ذكرى الطفولة ليوناردو دافنشي) غير قادر على تسجيل هدف، سيسجل الأفكار.
الآن لقد حل الليل على برلين، قوة الإنارة خفتت وزيدان يشعر فجأة أن السماء مظلمة فوق كتفيه، تاركاً فقط خطوطاً متطايرة من غيوم الشفق الأسود والوردي «الماء الممزوج بالعتمة هو ندم قديم لا يريد أن ينام» (باشلار، الماء والأحلام).
حلّ الليل على برلين، خفتت الإنارة وزيدان يشعر فجأة أن السماء مظلمة فوق كتفيه


لم يفهم أحد في الملعب ما حدث، من مكاني في مدرجات الإستاد الأولمبي شاهدتُ استئناف المباراة. الإيطاليون في حالة الهجوم والهجمة المرتدة التي ابتعدت نحو المرمى المقابل. بقي لاعب إيطالي على الأرض وقد حدثت تلك الإيماءة وتم القبض على زيدان من قبل آلهة الخصم. أوقف الحكم المباراة وبدأنا بالركض في جميع الاتجاهات على العشب، نحو اللاعب الممدد وفي اتجاه مساعد الحكم الذي كان محاطاً من اللاعبين الإيطاليين، كانت نظراتي تتجه من اليسار إلى اليمين، ثم من ناحيتي، رأيت زيدان، نظرتي كانت متوجهة دائماً نحوه، نحو شخص زيدان بلباسه الأبيض منتصباً في الليل وسط الملعب، وجهه قريب جداً من عدسة الكاميرا الخاصة بي، وبوفون، حارس المرمى الإيطالي الذي وصل متحدثاً إليه واضعاً يديه على رأسه مدلكاً له رأسه وعنقه، مداعباً إياهما، محتويهما مثل طفل، أو مولود جديد، في محاولة لإرضائه ولتهدئته. لم أفهم ماذا حدث، ولم يفهم أحد في الملعب ماذا حدث، توجه الحكم نحو مجموعة اللاعبين حيث كان زيدان وأخرج بطاقة سوداء من جيبه ولوّح بها نحو سماء برلين، وفهمت على الفور أنّها كانت نحو زيدان، البطاقة السوداء للكآبة.
إن لفتة زيدان، غير المرئية وغير المفهومة، هي أكثر مشهدية حيث كأنها لم تحدث، لم يكن من الممكن أن تحدث، إذا تعلق الأمر بالملاحظة المباشرة للأحداث في الملعب وبالثقة المطلقة التي يمكن أن نمنحها لحواسّنا، لم يرَ أحد شيئاً، لا المشاهدون ولا حتى الحكام. لم يقتصر الأمر على رأسية زيدان لم تكن لتحدث لكنها حدثت، حتى لو كان لدى زيدان النية المجنونة أو الرغبة أو الخيال لإعطاء ضربة رأس لأحد خصومه، ما كان رأس زيدان ليصل إلى خصمه، لأنه في كل مرة كان يجتاز رأس زيدان منتصف الطريق التي تفصله عن جذع خصمه، كان يبقى لديه نصف آخر ليعبره، ثم نصف آخر متبقّ، ثم نصف آخر أيضاً، وهكذا إلى الأبد، بحيث إن رأس زيدان، يتقدم دائماً نحو هدفه دون أن يناله، كأنه في حركة بطيئة هائلة تدور به دائرياً إلى ما لا نهاية. كان لا يستطيع الوصول لا جسدياً ولا رياضياً. كانت هذه القمة لزيدان، إن لم يكن لزينون، أن يدخل في جذع الخصم-أبداً. فقط النبض الهارب الذي اجتاز روحه كان مرئياً لعيون المشاهدين في العالم أجمع.