أ ـ سيمائية العـنوان يرتبط الجسر، في الحياة الواقعية، بالعبور، عبور الأنهار بشكل أساسي. فهو تخطٍّ لعقبة تعترض الطريق.
والنهر، رمز، ذو بعدين: أحدهما الخير والعطاء والخصب والجمال، وثانيهما اعتراض سبيل السائر والحؤول دون استمراره في السير. ولذلك، فالجسر تغييب للبعد السلبي واستبقاء للبعد الإيجابي. فهو رمز للسهولة المتولّدة عن الصعوبة، وهو إشارة إلى التغلب على التحدّي من أجل تحقيق الأهداف. وجسر خليل حاوي يتجاوز التخطّي، ليشير إلى القطيعة بين الضفتين اللتين يصلهما الجسر. وهو خروج من وضعية مرفوضة ودخول في وضعية أخرى مقبولة ومختلفة. ولذلك، فهو تحوّل أكثر مما هو عبور. وهو لا يحمل بعداً انبعاثياً بالمعنى الدقيق للانبعاث الذي ينشده الشاعر للأمة في نصوصه. فالانبعاث يعطي طَرَفة السابق (الموت) بعداً رومانسياً حالماً، خصوصاً أنّ هذا الموت سيكون نهاية الانبعاث السابق وبداية انبعاث جديد. أما الجسر فإعلانُ طلاق، رفضٌ للضفة الأولى ورغبة في عدم العودة إليها. وهو اقترانٌ، إيمانُ بالضفة الثانية ورغبة في الاستمرار فيها. تنقص الجسرَ حركيةُ الانبعاث وديمومتُه، لكنه يحتفظ لنفسه من دون ثنائية «الموت/ الانبعاث» بواقعيّة الحلم. جسر خليل حاوي هو جسر الأمة إلى نهضتها، وهو يمثل موقفاً بنائياً في سياق النص، وبنائيته محورية تدور حولها جميع حركات النّص التشكليّة.

ب ـ حركة تشكّل النص والنمط السائد
يتشكل النص من أربع حركات. يظهر في مطلع حركة تشكُّل النص الأولى حين يصف الشاعر نفسه بالكفاية التي تشكل مسرباً للنمط التفسيري الذي يشرح للقارئ طبيعة الكفاية القائمة على وجود أطفال أترابه وحبهم، وعلى وجود حصاد الحقل وعيده.
وتبدأ الحركة الثانية بالوصفية أيضاً، الوصفية التي تكشف التباين الحاصل بين الطفل ووالديه في طبيعة التفكير والتطلعات والرؤى. ولكنها سرعان ما تتسرب عن ساحة النص، تفسح المجال أمام الصوت الجمعي الذي نسمعه مخاطباً الذات في ما يسمى بالمونولوج الذي لا يفرض نفسه بشكلٍ كليّ على المساحة الكبيرة المتبقية من المقطع، بل يتناوب الوجود عليها مع الوصفية التي تعود مترافقة مع كل سؤالٍ تطرحه الذات الجمعية لتشكل وصفاً للمسافة القائمة بين الجيلين.


ولا تبارح الوصفية السرديّة التي تحتل مطلع الحركة الثالثة، لا بل تشكل لبابها وجزءاً من بنائها: يعبرون الجسر... فلا تترك هذه السّرديّة تنساب على رسلها تحكي لنا حركة الحدثِ عبرَ الزمان، حركة العبور من زمن الشرق القديم إلى زمن الشرق الجديد، لكنها تتداخل معها لتقدم لنا طبيعة الجسر، ضلوع الشاعر، وتصفه لنا، فهو وطيدْ.
وإذا تداخلت في نهاية هذا المقطع كلّ من السردية والوصفية والمونولوج، فإن الحركة الأخيرة ستشكل تداخلاً خلاّقاً بين الحوار الذاتي والنمطين: التفسيري والوصفي. ولا يخفى ما لهذا التقاطع بين الأنماط الأربعة: الحوار الذاتي، والوصفية، والسردية، والتفسيرية من وظيفةٍ دلالية. فإذا عبّر تداخل الوصفية والسردية، إلى جانب التّفسيرية، عن الصراع خارجياً، عبّر المونولوج عنه داخل النفس البشرية، نفس شاعرٍ كانت أو نفس جماعة.

ج ــ المجاز والخروج على النظام اللغوي
اعتمد شاعرنا على الكناية بشكلٍ أساسي. والكناية كلامٌ وصفيّ يحيل إلى الدلالة بطريقةٍ غير مباشرة، عن طريق الإيحاء بها. وفي ذلك «الحَيَد» الذي تقوم عليه الشعرية.
فمع ما في إنكار الطفل لكلّ من أبيه وأمه من مجاز، يخرج بالطفل عن طفولته ويتدخّل في توجيه الدلالة الأخيرة للسطرين الشعريين، إلاّ أن هذا الكلام الذي ساقه الشاعر بطريقةٍ خبرية لم يقصد به أن يقدّم إلينا معلومات لا نعرفها، أراد أن يوحي بلازم هذا الخبر، الافتراق بين جيلين: جيل الأبناء الذي تغيّر، وجيل الآباء المتشبّثين بالثبات والقدم. ولقد قدّمت لنا هذه الطريقة في التعبير، تداخل المجاز والكناية؛ دلالة احتمالية. فالافتراق غير محدّد وله صورته المختلفة في ذهن كل قارئ.
وتأتي الاستعارة في الدرجة الثانية من حيث استخدامها في النص، والاستعارة منهج شعري في التعبير، قوامه استبدال هوية المستعار منه بهوية المستعار له قصد التعبير عن دلالةٍ يعجز التعبير المباشر عن أدائها.
فهو عندما يقول:
سوف يمضون وتبقى
صنماً خلّفه الكهانُ للريح
التي توسعه جلداً وحرقاً
تخرج عملية إسناد الفعل «توسع» إلى «الريح» وتعديته إلى «الصنم» بالريح والصنم معاً، عن هويتهما الموضوعية لتعطي الريح هوية الجلّاد، والصنم هويّة الضحية، ولا تثير هذه الصورةُ الشفقة فينا؛ لأنّ الصنم «الضحيّة» هوية فنية للجيل البائد، ولأن هذه الهوية الفنية هوية مُفلسة، أطلالٌ لرؤية الكهان الدارسة، تستحق كل الحقد والغضب اللّذين انصبّا عليها من خلال «جلداً وحرقاً». لقد استطاعت الاستعارة من خلال شبكية مجازية معقدة أن تقدّم لنا الغضب الثوري ضد القدم تقديماً احتمالياً يذهب بتصوّرنا كلّ مذهب.
أما التشبيه فيأتي في المقام الثالث من حيث تواتر صوره في النص. والتشبيه وإن كان يسعى إلى إيجاد هوية بديلة للمشبّه، إلا أنّ حضور طرفيه باستمرار يحول دون التماهي مع الهوية البديلة. وهو مع ذلك يقوم بوظيفة دلالية لا يُستهان بها، خصوصاً في ما يتعلّق بتبادل الصفات والإشارات بين المشبّه والمشبّه به. يذكر الشاعر عقلية الجيل البائد: «طفلهم يولد خفّاشاً عجوز»، فهوية الطفل الموضوعية، وإن كانت حاضرة في هذه الصورة، إلا أن محاولة مماهاتها بهوية الخفاش العجوز أكسبتها كلّ ما لذلك الخفاش من صفات أساسية تتعلّق بحياة الظلمة والخوف من الشّمس، وما يوحي به ذلك من ظلامية مغرقة في التفكير. هذه الظلامية الاحتمالية التي أطلقت تفكيرنا ليتصور حركة الطفل الآدمية باتجاه الخفّاشيّة التي تستغرق ذلك التفكير ولا تنفذ.

دـ الشيفرات الثقافية والرموز
النصّ حافلٌ بالرموز؛ بعضها خاص بعالم هذا النصّ تغذّى من لبانه حتى استوى كائناً دلاليّاً سويّاً، وبعضها ضارب بجذوره في موروثنا الديني والثقافي والتاريخي. فكلمات مثل: أطفال، وخمر، وزاد، وحصاد، والحقل، وعيد، ومصباح، والخفاش، والجسر، وكهوف؛ انتقل بها النصّ من علامات ذات مرجعيّة واقعية حسّيّة بمعظمها، إلى علامات تكثّف بعداً رمزياً مجرّداً. فالأطفال إشارة إلى النسل الجديد الخارج على كل ما يحمله الجيل البائد من أسنٍ وجمود وتعفّن. فهم صورة النهضة العربيّة المتوخاة، وهم نتاج صراع بين القديم والجديد، لا مجرّد تكاثر طبيعيّ آليّ. والخمر والزاد ليسا أيَّ خمرٍ جالبٍ الفرحَ إلى القلب، ولا أيَّ زادٍ مالئ البطن وكافٍ من الجوع. والكفاية والفرح الناجمان عنهما متوغّلان في العمق الثقافي والحضاري للأمة. وهذا ما يرتفع بالشاعر من ذاتيته إلى مرقى إنسان الأمة الحضاري، وبحصاد الحقل إلى حصاد الأمّة في تاريخها السياسي والثقافي والحضاري والكفاحي.
أمّا كلمة «عيد» المتمتعة بذاكرة ممتدة إلى الينابيع، فمرتبطة بالحصاد المرتبط بالمصباح الجديد. يعني أنه لم يعد عيداً عادياً، صار عيداً متحمّلاً هموم الأمّة، متحسّساً أوجاعها، غارقاً في أحلامها السعيدة.
كيف لا والمصباح المغمّسُ بهذا العيد بالحصاد، ليس مصباحاً لانقشاع الرؤية أمام ناظريْ إنسان ما، ولكنه مصباح الهداية الذي تنقشع معه الرؤيةُ أمام بصيرة الأمّة، ويرتبط بجدل ضدّيّ مع الخفاش الذي بات رمزاً للظلاميّة الثقافية السياسيّة الحضارية التي تربك الأمّة وتعوّقها عن دربها الصحيح .
وتتناغم كلمتا «الجسر» و«كهوف» مع كلمتي «مصباح» و«خفاش» في الدلاليّة الرمزيّة الخاصة بالأمّة العربية. فالجسر والمصباح درب وهداية، والخفاش والكهوف تيه وضلالة.
أما الكلمات المنتمية إلى تاريخنا الثقافي فعديدة أيضاً. يأتي على رأسها كلمات مثل: بومة، ونسْر، وعبيد، ورماد. فالبومة شؤم، والرماد زوال، والنسر قوّة، والعبيد ضعف. أمّا كلمتا «صنم» و«كهّان» فرمزان دينيان يشيران إلى العقائد الدينية البدائية، ويومئان هنا إلى تخلّف الأمّة وبدائيتها، إلى جاهليتها المستعادة. واستعادة الجاهليّة في زماننا احتفاظ بالجهل من جهة، وخسارة لتفتح الحياة الذي ترصده الجاهليّة الأمّ من جهة أخرى . وما يجدر ذكره أن كلمة «مصلوب» الحاملة لكل آلام السيد المسيح من أجل خلاص البشريّة قد جفّت حتى بلغت درجة التفتت والامحاء في خطاب النص لممثل القديم. فالصلب هنا عقاب لمستحقّ. وهو مرتبط بصنميّة العقليّة البائدة. يحملنا على التشفّي ممن صُلب بعكس ما يثيره صلبُ السيّد المسيح فينا.
شبكية مجازية معقدة تقدّم لنا الغضب الثوري ضد القِدَم


وتتراءى لنا عبر هذا النص صورة سدوم وغيرها من المدن التي بادت بفعل النار والزيت والكبريت الذي صبّه الله عقاباً لها بما عصت ربّها. ولقد خلعت تلك الصورة بعدها السلبيّ في هذه القصيدة. فالزيت والكبريت للتخلّص مما عَلِق بالنفس وليس للإحراق، ويعني ذلك أن الشاعر قد أفاد من حصيلة العقاب الذي أنزله الله بالمفسدين لتخليص الأرض منهم، وحوّلها إلى وسيلة تبدو أكثر سهولة. هي الغسل. والغسل بالزيت والكبريت، في العمق، لا يومئ إلى البعد العقابي فحسب، لكنه يركّز ذلك البعد داخل دائرة التصحيح والتصويب التي تعيد الأمّة إلى رشدها.
ويبقى أن هذا النصّ قد ألمح إلى بعد زرادشتيّ حين ركّز على البرد والجليد بوصفهما بعض وجوه العذاب. فالعقاب عند الزرادشتيين يوم الحساب يكون بإلقاء المذنب في جبال الثلج والزمهرير لا في السعير. ولعلّ جبال لبنان التي عاش فيها خليل حاوي قد شابهت ببردها وثلوجها، في زمن الفقر، برد الزرادشتيين وثلوجهم التي تنتج العذاب.

هــ النصّ والعالم والأيديولوجيا
يحيل النصّ إلى عالم قوامه الأمّة العربية في بُعدَيها: القائم المتخلّف، والمنشودِ. والبعدان قد تحوّلا عن واقعيتهما، بعدما امتدّ التحوّل إلى العلاقة القائمة بينهما، خصوصاً حين ارتبطا بذلك الجسر المحمّل بتلك الرمزيّة الشفّافة.
فالواقع القائم: موتى وخفافيش وعجائز وصديد وعبيد وسقف واحد ورماد وكهوف ومستنقع وأصنام وكهّان وبومة وجليد.
والواقع المنشود: أطفال وحصاد وحقول ومصابيح ونسور وكنوز وجمر وزاد.
أما الجسر فزيت وكبريت وبيت يتشقق وأرحام تتقطع وعروق تتمزّق. وتشكل هذه العلامات إعادة تكوين للعالم وللعلاقات القائمة في داخله. وهذه الإعادة ليست ذلك التغيّر الحاصل عن توضّع العالم في النص فحسب، ولكنه التغيُّر الحاصلُ بكيمياء الشعريّة أيضاً. لأنّ الشعريّة بما تقوم عليه من مجاز، بمعناه الواسع، قادرة على إخراج الواقع من موضوعيته ليُلْحَق بالذات ويُصبحَ منتمياً إليها.
وما كان هذا الانتماء ليتم لولا أيديولوجيا الشاعر المهيمنة على رؤيته وانفعاله. والأيديولوجيا المهيمنة نفسها تخسر نفسها ونظامها حين تصير إلى النصّ. والباحث عنها في هذه القصيدة يجدها على هيئة صورٍ مُنْتَجَةٍ وعلاماتٍ تتخفّى الأيديولوجيا وراءها. والشاعر نفسه حين يصير إلى النصّ يفقد شخصيّته الواقعيّة ليتحوّل إلى جزءٍ من العالم الفنّي. ولن نجد خليل حاوي في هذا النصّ على كثرة الضمائر التي تعود إليه؛ لأنه صار إنسان الأمّة الأعلى المجرّد الذي يشتبك مع الجسر بضلوع وبروحيّة متوثبة مفارقة للعالم الواقعي.

* أستاذ باحث وناقد أدبيّ