يقول خليل حاوي في مقابلة معه نشرتها جريدة «الأنوار» اللبنانية (بتاريخ 9/6 /1982): «لمَّا كان الشعر، كما عرَّفته مراراً، رؤيا تنير تجربة، وفنّاً قادراً على تجسيدهما، كانت السمة التي يتفرَّد بها الشعر تنحصر في تلقِّي الرؤيا والتعبير عنها». نحاول، في ما يأتي، أن نقدِّم معرفة بتجربة هذا الشاعر التي تنيرها رؤياه، وتمثِّلها فناً شعرياً، بوصفها تجربة العربي الذي كانت إشكالية الانبعاث/ القيامة/ المخلِّص قضيته المركزية في حياته وشعره.
ولمَّا كان هذا الشاعر: «يقول ما يقول/ بفطرةٍ تحسُّ ما في رحم الفصول/ تراه قبل أن يولد في الفصول»، أقدَم على كتابة قصيدته الأخيرة برصاص بندقيته، فماذا رأى؟ وماذا قال في هذا الشأن؟

إشكالية الانبعاث/ القيامة
منذ أن دقَّت مدافع نابليون بونابرت أبواب القاهرة، وجد العربيُّ نفسه في مواجهة إشكالية الانبعاث. كان عليه، وهو يواجه هجوماً غربيّاً استعمارياً شاملاً، طاول جميع ثوابته وقدراته وثرواته....، أن يعي ذاته، وأن يحقِّقها. والنجاح، في هاتين المهمَّتين، هو الشرط الأساس للنجاح في مهمَّة مواجهة الاستعمار الغازي...


لم يكد العربيُّ يسعى، منذ نهايات القرن التاسع عشر، إلى وعي الذات وتحقيقها، حتى نبتت المعوِّقات في دروبه، وتمثّلت ليس في مشكلات الواقع المتخلِّف فحسب، وإنما في الاَخر المستعمر، وكان على العربيِّ، وهو يسعى إلى وعي ذاته وإبداعها، أن يدافع عن نفسه ضدَّ الآخر الذي كان يسعى، ولا يزال، إلى الحيلولة دون تحقيق ذلك، وإلى تشويه هذا الوعي وتهجين ذلك الإبداع.
ولكي ينجح العربيُّ، في مشروعه، كان عليه أن يمتلك قدرات الدفاع والإبداع، وهي في حوزة الآخر، المستعمر الغازي، وهذ الآخر كان يعطي ويمنع، كما تقضي مصالحه، أو كما يقتضي مشروعه الرامي إلى انتظام العربيِّ في فلك التبعية والاستهلاك...، لهذا كان يقدِّم المنجزات استهلاكاً، ويحول دون امتلاكها إنتاجاً، وكان يجهد في تعويق النُّموِّ وتشكُّل الهويَّة القومية القادرة الفاعلة.
بدأ هذا منذ أيَّام محمد علي، ولا يزال...

الحلّ/ المخلِّص ورموزه
يقتضي حلُّ هذه الإشكالية، كما رأى شعراء الحداثة – الروَّاد وجود مخلِّص يُحدث الانبعاث، والخصب والتحوُّل والنماء... وهذا ما دفع إلى استخدام الأسطورة، والرمز – الأنموذج المعادل، في الشعر العربي، في المرحلة الأولى من مراحل الحداثة الشعرية العربية.
كان خليل حاوي أحد روَّاد استخدام الرموز الشعرية، ومبدع نماذج معادلة جديدة، تجاوز بها ما قدَّمه الاطّلاع على الأدب الغربي، وخصوصاً شعر ت. س. اليوت وترجمة «الغصن الذهبي» لفريزر، فاستخدم رموزاً تراثية سورية وعربية ودينية مسيحية وإسلامية، وكان هذا التفرُّد وليد تجربة حياتية وشعرية فريدة.

التجربة الحياتية
أُتيح لخليل حاوي أن ينشأ في بيئة جبلية قاسية منفتحة؛ إذ ولد في بلدة الشوير الواقعة في أعالي المتن، وأن يتلقى التعليم في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة، في مدارس دينية مسيحية، وأن ينقطع عن التعلُّم، وهو في الثانية عشرة من عمره، ليعمل في عدة مهن منها: إسكافي، معاون لمعلِّمي العمار في القرى، مترجم...، كي يعيل أسرته بعد مرض أبيه، وأن يجيد لغات أجنبية، منها : الفرنسية والإنكليزية، وأن يعود إلى تحصيل العلم، وهو في السابعة والعشرين من عمره (عام 1946)، فينجح في الثانوية العامة، في سنة واحدة، وينال البكالوريوس في الفلسفة من «الجامعة الأميركية» في بيروت، والماجستير من الجامعة نفسها، وموضوعها: «العقل والإيمان بين الغزالي وابن رشد»، والدكتوراه من جامعة «كامبردج» في لندن ، وموضوعها: «جبران خليل جبران: إطاره الحضاري وشخصيته وآثاره»، وأن يمتلك ثقافة شاملة وعميقة، وأن يعمل أستاذاً للأدب العربي في الجامعة الأميركية في بيروت، ويرئس الدائرة الأكاديمية العربية فيها، وأن ينخرط في النشاط الحزبي – السياسي الاجتماعي في مرحلة قومية سورية اجتماعية، ثم في مرحلة قومية عربية، وأن يمارس كتابة الشعر الشعبي، وأن يحبَّ أديبة هي القاصَّة العراقية ديزي الأمير، ويخطبها. تبادله هي الحب وتلحق به إلى «كامبردج» ويعيشان معاً، غير أنه لم يستطع امتلاك «المرأة المستحيلة»؛ إذ كانت امرأة عاديَّة تريد الحبيب الأنيق، فتى الصالونات اللبق، والرجل الثري، المتفرِّغ لها. لم يكن في استطاعته ذلك، فهو شاعر متمرد، أنوف يأبى الانصياع، ملتزم بالمثل، لا يملك سوى راتبه... ، فكانت الخيبة. كتب في رسالة لها يصف معاناته: «كنت وحدي أقاسي ألم المخاض، ألم من تتمخَّض، ولا تلد».
هذه التجربة الحياتية أنارتها رؤياه، ما أتاح له أن يقدِّم تجربة شعرية تتميز من تجارب الشعراء الرواد، وأبرزها تجربتان: أولاهما تجربة السيَّاب الوجدية التي افتتحت الخروج على نظام الشطرين، وثانيتهما تجربة أدونيس الذهنية التجريدية، المسكونة بالتحوُّل. يقول في وصف تجربته هذه: »شعري هو حياة في صميم واقعها، هو إيقاع شعري لتحمُّلي شقاء الوجود».

التجربة الشعرية
تجربة حاوي الشعرية تتميز عن تلك التجارب، وتتفرَّد بإبداع القصيدة العربية الحديثة التي تمثل تحوُّلاً يماثل التحوُّل المتمثل بالقصيدة – المعلَّقة، فكثير من قصائده، مثل «السندباد» و«لعازر» تتشكّل من مشاهد، أو من متواليات، تنتظم في بناء كلِّي ناطق بدلالة كلية. وهو، كما تفيد قراءة شعره، يعيد تجربة شعراء الحوليات، فيجوِّد شعره، المتميز بثراء معجمه اللغوي ووفرة صوره المبتكرة.
قصائد حاوي تجسِّد، انطلاقاً من تجربة ذاتية، تجربة العيش الفردي والجماعي المتشابكة، وتفاعل الفلسفة والشعر، وتنطق برؤية الفرد – الجماعة، بأبعادها القومية والحضارية والإنسانية. لهذا لا تكون حداثة هذا الشعر خروجاً على العروض وعلى التراث الوطني، وإنَّما صدور عنهما وعن الحياة المعيشة، مغاير لهما، كما هو صدور الولادات المغايرة للأبوين، ودخول في نسيج المسار الشعري العربي، وانبثاق يؤتي إبداعاً جديداً همُّه الأساس رصد التحوُّل الحضاري المفضي إلى انبعاث.

إطلالة على مساره
في «نهر الرماد» (1957) أولى مجموعاته الشعرية، رأى الرماد يجري نهراً... ، ويخفي جمراً غافياً ينتظر الريح – المعجزة، فيسأل: «ربُّ، هل تعود المعجزات؟». يجيب عن هذا السؤال، وتتمثل إجابته/ رؤياه في الرمزين: تموز والعنقاء، وهما رمزان يمثلان اشتعال الكائن والتهابه، من دون أن يحترق، وانبعاث الحياة من الموت.
وفي «الناي والريح» (1961)، كان قد وجد في العروبة جوهر التحوُّل والانبعاث، تبدو له الريح – المعجزة قادمة لتكنس الرماد، غير أنها لم تلبث أن سكنت، فكانت «بيادر الجوع» (1965)، وهي بيادر من دون غلال، أو تمخُّض من دون ولادة، وإعلان العجز والجفاف، فيسأل: «كيف لا أقوى على البشارة؟»، ويقرِّر: «جفَّت شفتي»، ويرى، مستلهماً سورة «أهل الكهف»، من القراَن الكريم أنَّ عقارب الزمن لا تدور في الكهف العربي. وفيها يستلهم أيضاً، حكاية «لعازر» من الإنجيل، ويرى من منظور تجربته الشعرية، القائمة على الحدس الشعري، أو ما سمَّاه هو «ما يُفتح على الشاعر، في لحظات الوجد» أنَّ العجز عن الإخصاب كان، ولا يزال، سيِّد الواقع العربي. تقول امرأة «لعازر»: «كنت أسترحم عينيه/ وفي عينيَّ عار امرأة/ أنَّت، وتعرَّت لغريب/ عاد من حفرته ميتاً كئيب».
كثير من قصائده تتشكّل من مشاهد، أو من متواليات، تنتظم في بناء كلِّي ناطق بدلالة كلية


كانت الخيبة الكبرى في عام 1967، فإذا الأرض العربية هي «الأم الحزينة». وهذه الأم، في التراث المسيحي، هي السيدة مريم العذراء التي صلب «تجار الهيكل» ابنها عيسى المسيح. و«الأم الحزينة» المعادلة في الواقع العربي، هي الوطن العربي الذي شيَّع ألف مسيح ومسيح، و«لم يبق، في الأفق، سوى دخنة فحمٍ من محيطٍ لخليج» فحمة، صنعتها «اللعينة»، وجسد اللعينة لن يطهِّره العماد».
وفي «الرعد الجريح» (1973)، يُطلُّ الفارس حاملاً جراحه، ليجترح فعل القيامة/ التحرير، لكن «عاقري الناقة» يقطعون عليه الطريق ، فيكتب الشاعر «رسالة الغفران من صالح إلى ثمود» (1974)، ويحيل إلى حكاية النبي صالح مع قومه ثمود – عاقري الناقة، ويستحضر هجرة النبي محمد من مكة إلى يثرب، ويرى أنَّها تعادل الهجرة من فلسطين إلى الشتات، وأنَّ «الفتح» لا بدَّ آتٍ.

تجلبُب العقم بالعار
لكنّ «البطل!» المهاجر، لم يعمل بما قاله نبيُّه: «الجنة تحت ظلال السيوف»، فخلَّى ساح القتال، في اجتياح عام 1982، فاجتاز العدوُّ صيدا، وراح يتقدم نحو بيروت، وارتضى أقلَّ من النيِّرين في مرحلة تالية ستصير إليها، كما بدا للشاعر، في ما يتلقاه من رؤيا، فسأل نفسه: «أترى حملت من صدق الرؤيا ما لا تطيق؟». وقرر: «خلِّني! ماتت بعينيَّ منارات الطريق»، فركن إلى رصاصات تمحو العار، وتأخذه إلى عالم لا يرى فيه قطعان الكهوف المعتمة، وقد سادت زمن القحط. وهكذا كتب قصيدته الأخيرة، مقدِّماً لها بقوله: «ربّاه لا أحتمل هذا العار» كأنه «لعازر» يعود إلى حفرته، بعد أن تجلبب العقم بالعار، ولم يعد العيش في بلاد ثمود صالحاً.