باريس | توفي يوم الأربعاء الماضي الفنّان الفرنسيّ بيار سولاج (1919 -2022 ) إحدى أعلى القامات في الفنّ الفرنسيّ المُعاصر. رسّام ونحّات من طراز رفيع، عُرِضَتْ أعماله في أهمَ متاحف العالم. نشأ طفلاً في عائلة بسيطة، وتوفي والده عندما كان صغيراً فربّته أمّه، ثم عمل عندما كان صغيراً في محل لأدوات الصيد. منذ أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، كرّس بيار سولاج نفسه للفنَ التجريديَ، وأصبح لاحقاً ممثلاً لحركة الرسم غير الرسميَة La peinture informelle. تميَز بشكل خاص بهوسه الوجوديَ، الراديكاليّ والدراماتيكيّ، باللون الأسْوَد، والتمحيص المُزمن في درجاته، ووجوهه، والهالات التي تنبعث منه وعنه. تعامل مع هذا اللون كأنَه مادة للدراسة والتشكيل والاكتشاف والتأمل، فكان بالنسبة إليه عالماً بلا نهايات وبلا حدود. فعلى امتداد عمره الذي وصل إلى 102 عاماً، قضى نصف قرن من عمره الفني في حوار وجدال ومساءلة مع اللون الأسود، بلا كلل أو ضجر، بل بمتعة متواصلة، حتى وصوله إلى اختراع مفهوم noir-lumière أو outrenoir أي «إضاءات الأسْوَد» أو «ضوءُ السّواد». وهو يُعدّ اكتشافاً فنيّاً جاء نتيجة تأمّله لانعكاسات اللون الأسود، ولتلك الهالات المضيئة التي تتغير دائماً وفقاً لموقف المُراقب وطبيعة الجو والسياق. قَلَبَ الفنّان بهذا ما اعتقد الجميع أنّه يعرفونه عن اللوحة السوداء، والرسم التجريديّ، والفنّ رأساً على عقب. وهو يقول بكلماته: «ما يرشدني وما يظهر عندما أنظر إلى اللوحات، هو الضوء الذي يعكسه الأسود، الأسود الذي تحوّل عن الضوء».
إحدى لوحاته المعروضة في «متحف سولاج» في روديز (جنوب فرنسا)

في ذلك اليوم من عام 1979، عندما كان كالمعتاد بمفرده في مختبره الخاص في سيت، اكتشف الشيء الذي غيّر حياته كفنان. يقول: «ذات يوم، عندما كنتُ أرسم كالعادة تشكيلات متباينة على خلفيّة واضحة، مستخدماً اللون الأسود، لم تكن النتيجة جيّدة على اللوحة. تعثرتُ في الرسم، وبالغتُ في استخدام السّواد، فكانت النتيجة كارثيّة. كانت اللوحة مُغطّاة باللون الأسود... فشلتْ اللوحة. لكني لم أكن يائساً، لأنّها لم تكن المرّة الأولى التي يحدث فيها ذلك. ولا أعرف لماذا، ظللتُ أخوض في تلك العجينة السوداء، واستمتعتُ بها، ورأيتُ الأضواء القادمة، والأسطح التي كانت تنشط بضربات الفرشاة، وتابعتُ. وأخيراً، عثرتُ على فنيّة جديدة». في ذلك اليوم، أدرك سولاج أنّه اكتشف للتوّ بعداً فنيّاً جديداً، قائلاً: «كنتُ أبعد من الظلام، في مجال عقليّ آخر».
منحته الصحف الثقافيّة الفرنسيّة التي أعلنتْ خبر وفاته ألقاباً عديدة، منها «رسول الأسْوَد» حسب تعبير صحيفة «ليبارسيون»، وسمّي أيضاً بـ «سيّد اللون الأسوَد» بحسب صحيفة «لوباريزيان» وبحسب «فرانس كولتور»، بينما وصفته «لوموند» بأنّه الرسام الذي «جمع الأسود والضوء معاً». عاش بيار سولاج حياة طويلة عاشر فيها هذا اللون الذي سحره منذ كان صغيراً، ورسمه على القماش والورق والزجاج. وقد كرّس حياته الفنيّة لإظهار كلّ ما يمكن أن ينتج عنه من أشكال مُذْهلة. لون لا تنفذ احتمالاته، ولا يتوقّف عن الإدهاش، أمام كل الإمكانات التي يكتنز بها.
في البداية، لم تُقابل أعماله الفنيّة بالاحتفاء، لكن هذا الاستقبال النقديّ الصعب لم يستمر إلا لفترة قصيرة. بعد رفض أعماله في «معرض الخريف» الشهير عام 1947، تمكّن من عرض أعماله في معرض Salon des surindépendants. في هذا المعرض، قدّم أعمالاً تجريديّة، مرسوماً عليها خطوط متقاطعة عريضة، باللون البنّي والأصفر والأسود. وفي عام 1948، تمّت دعوة سولاج للمشاركة في معرض متنقّل للفنّ الفرنسيّ في ألمانيا.
الشجرة السوداء في الشتاء هي منحوتة تجريديّة (ب. س)

بعد ذلك، سرعان ما توالت معارضه الشخصيّة. ومنذ خمسينيات القرن الماضي، بدأت لوحاته بالدخول إلى أهمّ المتاحف في العالم، مثل «متحف غوغنهايم» في نيويورك و«صالة تيت» في لندن. واحتفالاً بالذكرى المئويّة لميلاده، احتفى «متحفُ اللوفر» به من خلال إعداد معرض استعادي له عام 2020، شمل سلسلة كبيرة من أعماله. وكان سولاج من الفنانين القلائل الذين قام اللوفر بعرض أعمالهم وهم على قيد الحياة. وفي بلدة روديز الفرنسيّة، مسقط رأسه، افتتحَ متحفُ للفنّ المعاصر عام 2014، يحمل اسمه ويضمّ مجموعة مهمّة من أعماله.
وإذا تتبعنا مسيرته الفنيّة، فإننا سنلاحظ أنّ اللوحات الكبيرة التي رسمها بين عامَي 1950 و1970 تظهر لنا بشكل جليّ عمل الرسّام على فكرة الوضوح/ الغموض، منذ بدايات مسيرته، في ظلّ انهماكه المستمر بعالم اللون الأسْوَد. هذا اللون ظلّ يؤكّد حضوره، في اللوحات، من خلال علاقته مع ألوان أخرى مثل الأحمر والأزرق، ويرجع الفضل في ذلك بشكل خاص إلى تقنية الكشط التي انتهجها الفنانّ الذي قال يوماً: «الشجرة السوداء في الشتاء هي منحوتة تجريديّة».