ستة عشر عاماً مضَتْ، على حرب أميركا والعدو الصهيوني على لبنان. ففي 12 تموز (يوليو) 2006، بدأ العدو الصهيوني قصفَهُ الوحشي، للمناطق السكنية في ضاحية بيروت الجنوبية، وللبلدات والقرى في الجنوب والبقاع، وللجسور والطرقات، ولمحطَّات تحويل ونقل الطاقة الكهربائية، والمصانع والمدارس، في كل الأماكن.الدمار. كانت مهمَّة القصف أن يَقْتُلَ الناسَ، ويُهجِّر الناجينَ ويمنَعهم من الوصولِ إلى أماكنَ يلجؤون إليها، بتقطيعه أوصال الوطن. كانت مهمَّة القصف، أن يدمِّر العُمرانَ، ويُهجِّر الناسَ، ويُفرِغ الأرضَ من أبنائها، ويجعلَ من إيوائِهمْ عمليةً صعبةً، لا بل مستحيلة. وفي 13 آب 2006، توقَّفت الأعمالُ الحربيَّةُ، التي دمَّر العدوان الصهيونيُّ خلالها، في الضاحية الجنوبية لبيروت وحدها، 228 مبنى، منها 189 في قلب بلدة حارة حريك، وفيها 3637 وحدة سكنية، و1187 محلاً تجارياً، والعديد من المستودعات والمكاتب.


وبلغ عدد النازحين 21 ألفاً. كان النزوحُ كثيفاً، فامتلأت المدارسُ في كلّ مكان، كما الشقَقِ الفارغةِ، وشاركَ بعضُ النازحينَ الناسَ في بيوتِهم، بروحٍ من التعاضُد قلَّ نظيرها. وسمعتُ حكايات جميلةً، عن نازحين احتَضَنُهم الناسُ في حمص، وحلب، ودمشق.
وفي 14 آب 2006، أي في اليوم الثاني لوقفِ الأعمالِ الحربيَّةِ، زرتُ بعض مراكزِ النازحين، فلم أجد أحداً فيها، كانت فارغة.
المدارسُ فارغة، والشققُ التي استؤجِرتْ على عجلٍ فارغة، والطرقاتُ فارغة. لا زحمة سيارات، ولا أفواجٌ من الصبايا والشبَّانِ على الأرصفة، ولا أطفالٌ يقفزون من رصيف إلى آخر. لقد عادَ النازحون ... جميعُهم. عادوا إلى قراهم المهدَّمة، يستظلّون خيمةً، أو شجرةً، أو بقيةً من سقفٍ. لم تُفرَغ الأمكنة كما أرادوا. عادَ الناسُ إلى الأرضِ التي عشقوها، وإلى الترابِ الذي سَقوه بدمِائهم.
عادوا إلى أماكنِ سكنِهم وأماكنِ عملِهم، في المناطقِ المجاورةِ لقلب بلدةِ حارة حريك المدَّمر، قبل أن يتأكَّدوا من ثباتِ وقفِ العدوان الصهيوني، ومن ثبات وقفِ الأعمال الحربيَّة. وظهرتْ في هذه العودةِ المُدهِشَة، قُدرةٌ فائقةٌ على ضبطِ الإيقاعِ العامّ للناس، كما ظهرَ فيها تَعلُّق النازحينَ بأرضهم وبممتلكاتهم، وبأماكن عملهم وأماكن سكنهم، وبكلِّ المجالاتِ المُتاحة للقائهم وتواصُلهم. ظهرتْ في هذه العودةِ، الرغبةُ العارمةُ بالتحدِّي، وبالتصدِّي للحربِ، وبالتغلُّب على نتائجها، وبالعودة إلى تملّكِ الأمكنةِ مجدَّداً، وبسرعة.
وبعد أيام، زرتُ المناطق المجاورة لقلب بلدةَ حارة حريك المدَّمر، فدُهشت بدفق الناس المنتشرين في كل الأمكنة: في الدكاكينِ، وفي المتاجرِ، وفي المقاهي الصغيرةِ، وعلى الأرصفةِ، وفوقَ الشُرفات. غابتِ المدينةُ، كما يقول مسَّميليانو فوكساس، وعمَّت الحياةُ الأمكنة. حياةٌ صلبةٌ، مقاومةٌ، متفائلة.

المباني المدمَّرة
كثرٌ هُم المعماريُّون، وأكثرُ منهم الباحثونَ في الشأنِ المدينيّ، ومخطِّطو المدن ومنظِّموها، الذين يعتقدون أن الدَّمار الذي تخلِّفه الحروبُ، هو أقصرُ الطرقِ التي تُتيحُ لهم تحقيقَ أحلامِهم في بناءِ مدنٍ مثالية. فيهدمون المباني المتصدعة جزئياً، وهذه التي تُجاورُها، وتلك التي بعدَها أيضاً، حفاظاً على السلامةِ العامةِ وفق ما يقولون. يُزيلون الطرقَ الرئيسةَ، والطرقَ الفرعيَّة، والفسحاتِ، والساحاتِ إن وجدت. يقطعون الشجرَ المتبقِّي، ويهدمونَ كلَّ المعالم. يُزيلون كلَّ أثرٍ للماضي القريب أو البعيد، وكلَّ معلمٍ يداعبُ الذاكرة. باختصار، يوسِّعون المجالات المدمَّرة أضعافاً، ويُزيلونَ الرُكام باحترافٍ عالٍ، فتبدو لهم «طاولةُ المكان» أفقيةً، فسيحةً، فارغةً، نظيفةً، إلا من أوهامهم، التي سيرصفُونها كالفسيفساء في مخطَّطاتهم الجديدة، وقد استعملوا في كِتَابتها أكثرَ التقنيَّاتِ الرقميَّةِ حداثةً وإبهاراً. ثم يَعمدونَ بعدَ ذلك، إلى ضمّ وفرزٍ جديدَين، وإلى إعادة رسم العقارات، وتغيير أشكالِ الوحداتِ المبنية، وتوسيعِ الطرقِ الرئيسة، وجعلها مستقيمةً قاطعةً كحدّ السيف، وتغييرِ المساراتِ الفرعيَّة، وتعديلِ كلّ المخطَّطات القديمة.

المهجّرون

باختصار، سيَعمَدُونَ إلى تصحيحِ الأوضاعِ التي كانت قائمةً قبل الدمار... يزعمون. ويتصوَّرون مدناً مثاليَّةً تقوُم في الأمكنةِ الشاسعة الفارغة. مدن مثالية، نظيفة، كلُّ ما فيها مستقيمٌ منتظم، يسكنُها ناس آليّون، معقّمون، يعملونَ بالريموت كونترول أو إذا أردتم، بنظام التحكُّم عن بعد.
كثرٌ من هؤلاء هم مثاليوّن حقيقيّون، تمتزِج عندهم الرغبة الصادقة، بتحسين الأُطر المبنيَّة حيث يعيش الناس، بالشطَطِ الفكريّ، وبالأوهام.
إلا أنَّ خِطابَ كثيرين منهم، وربَّما أوهامهم أيضاً، إنما تشكِّل القِناعَ الذي يختبئ وراءه رأسُ المالِ المتوحِّش، والشركات العقاريّة الضخمة. ولنا في شركة «سوليدير» في قلب بيروت التاريخيّ، مثال صارخ على ذلك. إذ هدَّمت الشركة العقاريّة قلبَ بيروت عمداً، ونظَّمت تخميناتٍ ظالمة، أدَّت إلى تهميشِ المالِكينَ وأصحابِ الحقوق، وإخراجهم، وقد بلغَ عددُهم 130 ألفاً. تملَّكت الشركةُ العقاريَّة قلبَ المدينة التاريخيّ وواجِهَتها البحرية، وعدَّلت مرَّاتٍ عدة وجهة استعمالات الأراضي، وعواملَ الاستثمار المعمول بها، وباعتْ معظَم هذه الأراضي من شركات عقاريّة عملاقة، لتبنى فوقَها الأبراج، يملكُها أغنياء زائرون.
هدَّمت الشركة العقاريَّة النسيجَ المدينيَّ المتراكم، وطردَتْ النسيجَ الاجتماعيَّ الذي كان يسكُنه أو يعملُ فيه، وأقامت مكان كلِّ ذلك، أبراجاً أو مباني لسكنٍ موقتٍ للأغنياء. ومن البديهيّ أنه سيكونُ من الصعبِ، أن يقومَ فيها مجتمعٌ، وأن تقومَ فيها مدينة.

إعادة الإعمار: الأهدافُ الرئيسة
هل هذه مقدِّمة؟ للبحثِ في موضوعِ إعادة إعمار ما دمَّرته حربُ العدوّ الصهيونيّ، في ضاحيةِ بيروت الجنوبيَّة؟ أجزم أنها في صُلبِ هذا البحث، إذ أردتُ الإشارةَ فيها إلى موضوعاتٍ ثلاث:
الأولى، وهي بعض المُبالغاتِ المنهجيَّة، التي تُرافقُ عادةً كلَّ بحثٍ في إعادةِ الإعمار. والثانية، خطرُ الأطماعِ بأرباحٍ مُضاعفة، تجنيها رساميلُ كبيرةٌ، تُحاول التلطّي بالطموحِ المشروعِ إلى التنمية، والتصحيح، والتحسين، والتحديث، والتي تُرافقُ عادةً كلَّ عملياتِ إعادة الإعمار. والثالثة، حجمُ الدمار، وكثافةُ النزوح، ودلالاتُ عودةِ الناس الفوريَّة إلى أماكنِ سكنهم، وأماكن عملهم المدمّرة.
ففي ضوءِ هذه الدلالاتِ الهامَّة، يُصبح الهدف الأول لإعادة الإعمار، تأمينُ عودةٍ سريعةٍ للنازحينَ، إلى أماكنِ سكَنهم وأماكنِ عَملهم، كي لا يطولَ انقطاعُهم وتطولَ غُربتُهم، فتَحدثُ فجواتٌ عميقةٌ في ذاكرتهم الجمَاعية يصعُب رَدمُها، وكي يُحافَظَ (بضم الياء)، على تعلُّقهم العاطفيّ بالأمكنةِ التي تملَّكوها عقوداً. فيعودون إلى حقوقهم كاملةَ، في كافةِ أشكالِ استخدامِ المجالاتِ المبنية: مستودعاتٌ ومطابعُ ومواقفُ للسيارات، ومتاجرُ ومقاهٍ ومشاغلُ صغيرة، وبعضُ المكاتب، والآلافُ من الوحداتِ السكنيَّة المختلفةِ المساحاتِ والتصاميم.
ويعودون إلى «ضاحيتهم» كما ألفوها، وعاشوا فيها، وتملَّكوها، لا إلى ضاحيةٍ افتراضية، متخيَّلة، غريبة، مغرِّبة، تزعَمُ التحديث، والتطوير، والمُعاصَرة. وكل قراءةٍ في حجمِ الدمار، وفي تأثيره في مُجمَلِ النسيجِ المبنيّ في المنطقة رغم قساوته ووحشيته، عليها أن تتمَّ من منظارِ العودةِ السريعة المذكورة. والقراءةُ الموضوعيَّة لنسبةِ المساحات المدمّرة، تدفع بقوةٍ في هذا الاتجاه. كانت الحربُ عدوانيةً وحشيةً وقاسية، إلا أن الدمارَ الكامل كان موضعياً، ولم يتعدَّ الأربعين هكتاراً، أي ما يُعادل 400 ألف متر مربع، أو أقل من نصف كليومترٍ مربَّعٍ. وللمقارنة، فإن مساحةَ وسط بيروت، هي ثلاثةُ أضعافِ المساحةِ المستهدفةِ في بلدةِ حارة حريك، ومع رَدمِ البحرِ قبالتها، تُصبِح بحدودِ الخمسةِ أضعاف، أي مليوناً وثمانماية ألف متر مربع.

أرقامُ الكلفةِ وآلياتُ التنفيذ
لقد قُدِّرت كلفةُ إعادة الإعمار في ضاحيةِ بيروت الجنوبيـةِ بما فيهـا قلب بلدة حـارة حريك المدَمَّر، بـ 600 مليون دولار أميركي: 400 مليون دولار أميركي لإعادة تشييد المباني المدمَّرة، ولأعمالِ الترميمِ الجزئية، و100 مليون دولار لتأهيل البنية التحتية، و100 مليون دولار للاستملاكات الضرورية، لاستحداث الحدائق ومواقف السيارات، ولتوسيع الأرصفة وتشجيرها...
أما حجمُ التعويضات الإجمالية، التي من المفترض أن تدفعُها الدولة للمتضرّرين، فيبلغ 45 % من كلفة إعادة تشييد المباني. لقد اعتمدت الجمعيةُ العامَّة، للمتضرّرين النازحين «مشروع وعد لإعادة إعمار الضاحية الجنوبية لبيروت» وفوَّض 96% من المالكين «مشروع وعد» بأن يُعيد الإعمار باسمهم. وقام المشروع على هيئات من عدة مناسيب: منســـوبٌ إداريٌّ تقنيٌّ، يتولّى الإدارةَ والتنفيـذ، ومنسوبٌ اجتماعي إنساني، يتولَّى التنسيق اليوميَّ مع الناسِ، في كلّ ما يتعلق بإعادة البناء. بشكل موازٍ لهذين الجسمين، الإداري التقني، والإنساني الاجتماعي، وباقتراحٍ من كاتب هذه السطور، تمَّت تسمية هيئة استشاريَّة، تألفت من معماريّين ممارسين وأكاديميين، ثلاثةٌ منهم من الجامعةِ اللبنانية: جاك خوَّام ومحمود شرف الدين وكاتب هذه السطور، وواحدٌ من الجامعة اللبنانية الأميركية مارون الدكَّاش، ورئيس رابطة المعماريين (في حينه) محمد دندشلي، ورئيس فرع المعماريين (في حينه) في نقابة المهندسين في بيروت سني الجمل. انضمَّ إليهم المعمار مدير عام «مشروع وعد»، حسن الجشي. وشارك في اجتماعات الهيئة الاستشارية، كلٌّ من نائبِ رئيس اتحاد بلديات الضاحية الجنوبية، ورئيس بلدية حارة حريك، وهي البلدة التي تشكّل رئة الضاحية الجنوبية، وقد دمَّرت الحربُ قلبها، أكرر.

الدمار في ضاحية بيروت الجنوبية

لقد دعت الهيئةُ الاستشاريَّة، المعمارية ومخطّطةَ المدنِ، والأستاذة في الجامعة الأميركية فـي بيروت، هنا علم الدين، إلى المشاركة في اجتماعَاتِها. وكلَّفتها بإعدادِ المخطَّط التنظيميّ، لإعادة إعمار قلب بلدة حارة حريك، معتمدةً الخلاصات التي توصَّلت إليها الهيئةُ الاستشارية. وتمَّ إعداد المخطَّط التنظيميّ بإشراف الهيئة الاستشارية بشكلٍ كامل. وبعد الانتهاء من إعداد المخطَّط التنظيمي لإعادة إعمار قلب بلدة حارة حريك، قُسِّمت المباني التي سيُعاد بناؤها وعددُها 189 مبنى، إلى 30 مجموعة. وتأميناً للتنوع في الكتابة المدينية التفصيلية، وفي الكتابة المعمارية، اختارت الهيئةُ الاستشاريَّةُ 30 مكتباً استشارياً، وكلَّفتها بإعداد الدراسات التمهيدية للمجموعات الـ 30. فأعدَّت المكاتبُ الدراساتِ التمهيديَّةَ المطلوبةَ، وعرضَتْها على الهيئة الاستشارية التي ناقشتها، ووافقت عليها، بعد إجراء تعديلات جذرية في الغالب. ثم عمدت بعدها هذه المكاتبُ، إلى إعداد الملفَّـات التنفيذيـة الكاملة، بالتنسيق مع الجهاز التقني في «مشروع وعد»، انطلاقاً من المواصفات الموحَّدة، ومن دفاتر الشروط الموحَّدة. تلا ذلك، تلزيم إعادة الإعمار إلى شركات كبرى للمقاولات، بناء على المواصفات الموحّدة ودفاتر الشـــروط الموحّدة التي أُعِدَّت مسبقـاً، والتي أشرت إليها، وتلزيم الإشراف على أعمال التنفيذ، إلى مكاتبَ استشاريةٍ متخصصة بأعمال الإشراف.

حارة حريك: التنظيم المديني
رُغم قساوتهِ، ووحشيَّته، كان التدمير موضعياً محدوداً. والتنظيمُ المدينيُّ الذي اعتمدته الهيئةُ، هو تنظيم موضعيٌّ بدوره. فهو أقربُ إلى الخياطة. منظِّم المدن هنا، هو خيَّاط، يكاد.
إنه تنظيمٌ مدينيٌّ شديدُ البعدِ عن المفاهيم الجراحيَّة في التنظيم، وعن مفاهيم الأرض المحروقةِ، والطاولةِ المسطَّحةِ الفارغة. يرسُم عليها منظِّم المدن ما يشاء، متلطّياً بمفرداتٍ مثل التحديث، وجودةِ الحياةِ، والحفاظِ على البيئـة، والتهوئة، والتشميس وغيرها، ويرى في الحرب رافعةً حاسمةً لكلّ تحديثٍ وتطوير. فلنستفد من الحرب يقول بعض المنظِّرين. وعليه بالتالي، أي على المنظّم المدينيَّ المعتمد، أن يُنتج (بضم الياء) مباني قياساتها في الطول والعرض والارتفاع وعدد الطبقات، مماثلةَ للمباني التي هدِّمت، لتتناغم مع المباني التي تُجاوِرُها مباشرةً، أو تلكَ الموجودةِ في الامتداداتِ المتاخِمة، وليكونَ تأثيرُها في النسيجِ العامّ المبنيّ مماثلاً لتأثيرها.
إنه تنظيمٌّ مديني يحصُر الدمارَ، ويُرمِّم كلَّ ما يُمكِنُ ترميمه، خلافاً لما حصلَ في أماكن أخرى من بيروت. ويحرُصُ على الذاكرةِ الجماعيَّةِ للناس، يَحميها، ويُحصِّنها، لتُسهم في وحدة النسيجِ الاجتماعيّ وفي تَماسُكِه. والذاكرةُ الجماعيَّةُ للناسِ، يحتضِنُها الحيّزُ العام في المدينةِ أو في جزءٍ منها، أي الطرقاتُ، والشوارعُ الرئيسةُ والفرعيَّة، والدروبُ والساحاتُ والفسحاتُ والحدائقُ، إنَّه الأرصفة خاصة. والمدينةُ، أو أي جزءٍ منها، في وسطِها أو في أطرافها، إنما تَصنُعها أو تَصنع هذا الجزءَ أو ذاكَ منها، عناصرُ ثلاثة: الموقعُ الطبيعيُّ الذي تقومُ عليه المدينةُ، أو أيُّ جزءٍ منها، بكلّ ميزاته، وشبكة الطرقاتِ والساحاتِ والفسحاتِ التي تقسِّمها، أو تقسِّم أيَّ جزءٍ منها، إلى شوارعَ، وأحياءَ، وجزر مبنيَّة في هذه الأحياء، وأخيراً شبكة العقاراتِ الموجودةِ، وتعدُّدِ الملكياتِ العقارية فيها، وتَقارُبِ مساحاتها أو تَفاوتِها. التنظيم المدينيُّ الموضعيُّ، الذي اعتمدتْه الهيئةُ الاستشاريةُ، يقومُ على أفكارٍ بسيطةٍ، أساسها دائماً، عودةُ النازحين السريعة إلى أماكنِ سكنهم وأماكن عملهم، وتصليبِ ارتباطِهم بالأمكنةِ، وتعزيزِ تعلُّقهم العاطفيّ بها، وتمتينُ الذاكرةِ الجماعيَّة لديهم. وأهم هذه الأفكار: المحافظةُ على الشوارع الموجودة، الرئيسة والداخليَّة والفرعيَّة، وعلى الممرَّات الضيّقةِ، والدروبِ الملتويةِ والمتعرّجة، الموروثةِ من زمن الزراعةِ والبساتين، والمحافظةُ على العقاراتِ كما كانت عليه، بقياسَاتها بحدُودِها وبمسَاحاتِها، وعلى المُلكيَّات العِقاريَّة، وعلى الحقوقِ المثبتة للسكَّان، والموثَّقة في خرائط الإفراز الصادرة وفق الأصول، وفي تقارير اللّجان المختصَّة بالتواصل مع المالكين والشاغلين. لا شركات عقاريَّة هنا، تَنزعُ ملكياتِ الناس، وتسرقُ حقوقَهم كما حصَل في مناطق أخرى من بيروت. لا ضمَّ، ولا إفراز جديدين يُغيِّران النسيجَ المدينيَّ، متلطِّيان بصعوباتٍ التعامل مع الحقوقِ المتعدّدة، ومؤديان بالضرورة إلى تغيير الملكيَّة، وتغيير النسيج الاجتماعي. الهدفُ الأولُ للتنظيم المدينيّ الموضعيّ، الذي اعتمدته الهيئةُ الاستشاريَّة، هو إنتاج نسيج مدينيّ عصريٍّ، راهنٍ، مرحِّبٍ، ملائمٍ، أليفٍ، يُعيد احتضانهُ للنسيج الاجتماعيّ، الذي سكنه خلال العقود الماضية. والنسيج الاجتماعي هذا، إنما عرفناه نسيجاً متعاضداً، متماسكاً، متآلفاً، متعلِّقاً بالأمكنة التي سكنها، عاشقاً لأرضه. وقد عاد هذا النسيج بعد إعادة الإعمار، إلى تعاضُدِه، وتماسُكِه وتآلُفِه في ضاحيته، وقد أعيد بناء ما دمَّرته الحرب فيها. في ضاحيته الجنوبية كما يرى البعض، وفي جنوب بيروت كما أرى أنا، رافضاً مقولة الضاحية، لأن المدينة قد امتدت إليها منذ زمن بعيد.

التحسين الممكن
أين التحسين؟ الموعود؟ سيسأل الجميع بالتأكيد. التحسين، في ما اعتمدته الهيئة الاستشارية، ظاهرٌ في إعادة الإعمار الشاملة، التي تمَّت بنجاح مذهل. وهو واضحٌ في إعادة الإعمار على مناسيب متعدِّدة: فهو مديني أولاً، إذ تمَّ تنفيذ التخطيطاتِ الملحوظةِ والمصدَّقة، بما سمح بالمحافظة على المسارات، أمكنةَ الذاكرةِ الجماعيَّة للناس، كما سبق وذكرت. وسمح في الوقت ذاته، بتصنيفِ الشوارعِ إلى رئيسة، وداخليَّة، وفرعيَّة، وإلى دروبٍ وممرات مشجَّرة للمشاة، مكرراً مرة أخرى. كما سمح بتصنيف الشوارع وتميُّزها، وإعطاء كل منها طابعاً خاصاً به. كما سمح أيضاً بتشميسٍ أفضل، وبتهوئةٍ أفضل أيضاً، وبتنظيمِ السير وتسهيلِ المرورِ، ولحظِ مواقفَ مؤقتة للسيارات بمحاذاة الأرصفة، أمام المتاجر والمحلاَّت والدكاكين، ومواقف دائمة لسيارات الساكنين، في الفسحات الداخلية أحياناً، وفي الطبقات السفلية غالباً. وعزَّز الحيزَ العام، مكانَ الذاكرة الجماعية الأكثر صلابةً، ومكان تنفُّس هذا الجزءِ من المدينة، ومكانَ لقاءِ الناسِ وتواصُلهم. كلُّ ذلك حسَّن المسارات، وعرَّضَ الأرصفة وشجرها، ونظَّم الساحات والفسحات والفضلات. وتمَّ استملاك بعض العقارات الملائمة، أُقيمت فيها الحدائق، بنيت تحتها مواقفُ عامةٌ للسيارات.
وهو مديني معماري ثانياً، إذ إنَّ التنظيم المديني الذي اعتمدته الهيئةُ الاستشاريَّةُ، أعاد إنتاج كتل مبنَّية متناغمة مع جَاراتِها ومع مُحيطهـا، منتظمة، بسيطة الأشكال، أليفة، هادئة بألوانها ألوان أرضنـا، ألوان التراب والصخر والرمل. كما نظّم علاقة هذه الكتل بالشوارع، وبالشارع الرئيس خاصة. فهي موازيةٌ له، متلاصقةٌ غالباً، تنتصبُ عند حدودِ التراجع الإلزامي، حيث نقرأ اليوم في واجهةِ الشارع أو في جدارِ الشارع، مداخلَ واضحةً إلى الفسحاتِ الداخلية، كما نقرأُ أيضاً بسهولةٍ، بواباتِ الشوارعَ الرئيسة والداخلية. وفي الزوايا الهامة، وعند التقاطعات انتصبت مبانٍ مدروسة بعناية، مبانٍ دالَّة لها صفةُ المعالم، فبدت في موقعها، كأحداثٍ معماريَّة بارزة. لقد حسَّن التنظيم المدينيُّ الذي اعتمدتْهُ الهيئةُ الاستشاريَّة، علاقَة المباني بالناس، الساكنين والمارَّة على السواء، فشدَّد على علاقةِ المباني بالأرصفة، وعلى إبراز مداخلها، وإبراز موقِع الشرفاتِ فيها، وعلى مساحة هذه الشرفات وتجميعها، وحسَّن استعمَالها في وظيفتِها، كمجالٍ انتقاليّ بينَ الداخلِ والخارج، للتواصُل مع المجالاتِ الخارجيَّة ومع الناس. وهو اجتماعي إنساني ثالثاً، إذ إن المباني صُممت، وأعيد بناؤها، بمساحاتها الطابقية، وبالوظائف التي توزَّعت على مختلف الطوابق، بمشاركةٍ مباشرةٍ من الناس، أصحاب الحقوق. عندما سكن الناسُ المباني التي هدِّمت، أو استثمروا دكاناً أو مستودعاً، إنما اشتروا الشقَّة، أو الدكَّان، أو المستودع، من تاجرِ البناءِ. وجدوا المبنى ملائماً، فعالجوه بتعديلاتٍ طفيفةٍ ربَّما، وسكنوا الشقة، واستثمروا الدكان أو المستودع سنوات، أو ربما عقوداً.
أما في عملية إعادة الإعمار التي أنجُزتْ بسرعة نموذجية، فإن الدراسات التمهيدية، أُعدَّت انطلاقاً من خرائط الإفراز الموثَّقة، ومن تقارير لجان الاتصال مع الأهالي. ثم عُرضت التصاميم على الأهالي ساكنين أو مستثمرين، فأبدوا ملاحظاتهم عليها وهي كثيرة وتطال: المساحات الملحوظة، وطريقة توزيع الوظائف داخل المسكن وطريقة الانتفاع بها، والمسارات الداخلية التي تربطُ الوظائفَ بعضَها بالبعضِ الآخر. وغالباً ما طالت الملاحظاتُ أدقَّ التفاصيل، مثل الدخول إلى المسكن، ومساحة المدخل، ومرحاض الزوار وبابه الخَفِرُ بالضرورة، وموقع المطبخِ، وسهولةُ الوصولِ إليه من القسمِ المخصَّص للأسرة، وغرفةُ النومِ، التي عليها أن تَصلُحَ، لتكون غرفةً للقاءِ الأسرةِ اليوميّ، وغرفةُ الطعام المستقلَّة، والمفصولةِ عن المجلس، ليسهُلَ الانتفاع بها بطريقة أخرى، ... وغير ذلك من الملاحظاتِ التفصيلية. لقد تعدَّت الملاحظات بالطبع، ما ظهر في خرائط الإفراز، وفيها الكثير من التعديلات والإضافات، وفق ما ارتآه الساكنون اليوم. بعد سكنهم الطويل في شقَّتهم التي هدَّمتها الحرب.
أرى في ذلك شكلاً من أرقى أشكال الديموقراطية المباشرة، ورؤيةً متقدمةً لإعداد التصميم المعماريّ بمشاركة المنتفعين به مباشرة. تنظيمٌ مدينيّ تشاركي كما يُعرَّف أكاديمياً. في عملية إعادة الإعمار، في ضاحية بيروت الجنوبية، شاركَ الساكنون في تصميم مسكنهم، وهو شقَّة في بناء يضمُّ عشرين إلى ثلاثين شقة، جاعلين منه إطاراً حقيقياً لحياتهم، يحتضن طريقة عيشهم كما يرونها اليوم، لا كما كانت عليه، عندما اشتروا المسكن من التاجر منذ سنوات، أو منذ عقود.
إننا أعدنا بذلك، إنتاج طريقة عيش الناس بمشاركتهم المباشرة.
التنظيم المديني أعاد إنتاج كتلٍ مبنَّيةٍ متناغمةٍ مع جَاراتِها ومع مُحيطِهـا


وهو فني، تقني، مهني، رابعاً، إذ إننا أعدنا الإعمار، ونحن في قلب المعاصرة أو في جوهر الراهنية، من انتظامِ الكُتل، إلى بَساطتها وتلاصُقِها، وإلى كِتَابتِها لواجهةِ الشارع أكرّر. أعدنا إعمار جزءٍ من مدينةٍ، وفق معاييرَ في التنظيم المديني واضحة، ولم نُعد إعمار مجموعةٍ من المباني المتنافرة، لا رابط تنظيمياً بينها. إنها مبانٍ كتَبناها بتيبولوجيات متناغمة متجانسة في واجهاتها.
الفتحاتُ وقياساتُها ونسُبها، مقارنةً بالمساحاتِ الصمَّاء في الجدرانِ، تتكرَّرُ أحياناً وتختلفُ أحياناً أخرى، ضمن قراءةٍ لوحدةٍ في المعالجات عبر تنوُّعها، إلى الأبجديَّة المستعملةِ في صياغةِ لغةِ العِمارات، إلى المورفولوجية المدينية في الشوارع والفسحات الداخلية. فالشرفاتُ غائرة أحياناً (لوجيا)، والظلالُ في قلب المباني تحكي عُمقها ودفئها. وهي بارزةٌ أحياناً أخرى، والظلالُ أنغامٌ في الواجهات. والنتوءات عموديةٌ بحضورها وظلالها، أردنا لها غالباً، أن تدلَّ على مداخل المباني، أو أن تُزنِّر أحياناً الشرفاتِ البارزةِ وتُنظِّمها.
وكثُرتْ قراءتنا لواجهاتِ المباني، كقراءة الأعمدة الكلاسيكية الإغريقية والرومانية، أي رأينا فيها قاعدةً وجسماً وتاجاً. وكان هناك انحياز إلى الألوان الهادئة، والابتعادِ عن كلّ ما هو مُفتعلٌ، غريبٌ وصارخٌ. مع استعمالٍ ملائمٍ لتقنيات الراهن في حينه، ومع الإفادة من التجديد الهائل في مواد البناء، ومع التركيز على مبادئ السلامةِ العامَّة، وثباتِ البناء، ومُقاومتهِ للزلازل، وتجهيزهِ بالشبكاتِ العصرية الآمنة، وسهولة الوصول إليه في الحالاتِ الاستثنائية.

الوضع الحالي
فـي تموز 2007، أي فـي الذكرى الأولى للحرب على لبنان، انطلقـت ورشـة «مشروع وعد» لإعادةِ تشييدِ المباني المدمَّرةِ في الضاحيةِ الجنوبيةِ، وعددُها كما ذكرتُ 228 مبنى، منها 189 في قلب بلدة حارة حريك الذي دُمِّر. في محطات متلاحقة من عام 2009 تم إنجاز 37 مبنى، سُلّمت إلى أصحابها.

قرأتُ اقتراحاً يقضي بتصميمِ «ساحة للنصر والتحرير» في قلبِ المنطقـةِ المدمَّرة

وفي مراحل لاحقة، تم إنجاز وتسليم، 50% من المباني المدمّرة، التي أعيد إعمارها. أما النصف المتبقي من المباني، فقد تم تسليمها إلى أصحابها في خريف عام 2010. وأُعِدَّت دراسة كاملة لترميم واجهات المباني المسكونة في حينه، والتي لم تتأثر بالقصف وعددها 81 مبنى، وتم ترميمُ واجهاتِ هذه المباني في حينه، من الخارج، دونَ إقحامِ «الورشة» في حياة الساكنين. خلال النقاش الذي دار في حينه حول «مسألة إعادة الإعمار في ضاحية بيروت الجنوبية لبيروت» قرأتُ في الصحفِ، اقتراحاً يقضي بتصميمِ «ساحة للنصر والتحرير» في قلبِ المنطقـةِ المدمَّرة. جوهرُ الاقتراحِ هو الإبقاءُ على «دمارٍ وسط الإعمار» يذكِّرنا بالحرب، لضمان اللاعودة إليها. هراء كاملٌ. اللبنانيون لم يحاربوا، ليضمنَ الدمارَ عدمَ عودتهم إلى حربٍ أخرى... ثامنة، وتاسعة وعاشرة. اللبنانيُّون قاوموا، ودَافعوا عن أرضهم، وأفشَلوا العدوَّ الصهيونيَّ المعتدي. شنَّت أميركا والعدو الصهيوني حرباً علينا. وحرب أميركا مستمرَّة اليوم، في أماكن عدة حول العالم.
لا حاجة بنا لأن نتذكر، قلت في حينه، ونحن نرى الدمار والشهداء على شاشات التلفزة كل يوم. نحن أعدنا البنيان، وسنستمر في إعادة البنيان.
فلنعمِّر... ولنستعد دائماً ... لنقاوم، بالأمس، اليوم، وغداً.

* معمار لبناني