اللوحة والجداريّة أداتا نضال للفنّانة الغزّاوية ليلى الشوّا (1940 ــ 2022/ الصورة) التي اختتمت بغيابها أوّل من أمس مساراً كفاحيّاً فنّياً مديداً أضحى مع السنين حديث الأوساط ﺍلتشكيليّة غرباً وشرقاً، وحُفظت لها أعمال في متاحف عالميّة كالمتحف البريطانيّ . فنانّة ملتزمة، مناضلة بشراسة ضدّ المحتلّ، خاصّة بجداريّاتها المعروفة من العالم كلّه على جدران غزّة والراسخة في وجدان كلّ فلسطينيّ. وهي القائلة: «أعتقد أنّ أحد أدوار الفنانين المعاصرين هو أن ينقلوا، من خلال الفنّ، تأمّلاً حول زمنهم وإيصال واقع هذا الزمن إلى المتلقّين. خلال أربع سنوات، ومع انطلاق الانتفاضة الأولى، بحثت عن الطريقة والأداة اللتين أستطيع بهما فكّ ‏رموز الصراع بين الفلسطينيين والاحتلال». بهذه الكلمات، وصفت عام 1992 مشروعها «جدران غزة» الذي جسّد الطفولة وندوبها، والذي استعادته بعد بضع سنوات في ثيمتها الأخرى تحت عنوان «أطفال الحرب، أطفال السلام» (2002). وفيه نرى صورة متكرّرة لطفل على جدران متفرقة في غزة وبألوان مختلفة. تتحدّر ليلى الشوّا من إحدى أقدم العائلات الغزّاوية وأعرقها. ‏والدها، الحاج رشاد الشوّا، كان رئيساً لبلدية المدينة بين عامَي 1971 و1982. درست الفن التشكيلي في القاهرة، ثمّ في إيطاليا والنمسا وعادت لتدرّس فنّ الرسم في مدينتها الحبيبة حتى عام 1967، ثم انتقلت إلى بيروت التي استقرت فيها حتى مطلع الحرب الأهلية، لتعود إلى غزّتها حيث أسهمت في إنشاء «مركز رشاد الشوّا الثقافي». بعدئذ، استقرت بشكل ‏نهائي في لندن، مع اندلاع الانتفاضة الأولى . ورغم المنفى، ظلّت هويّتها الغزّاوية تطبع أعمالها، وعبّرت عن ذلك بقولها: «إنّني أنتمي إلى العالم كلّه وأنتمي في الوقت نفسه إلى مكان محدّد هو غزة. هذا المكان معرّض باستمرار للتجاهل، للدمار، للحصار. كيف يمكن عدم النظر إلى واقع مماثل؟». واهتمّت ليلى في شكل خاص بنساء مدينتها ونساء فلسطين عامة، ‏فالمرأة الفلسطينية مساوية للرجل في النضال والشهادة، وحتى في العمل العسكري الميداني.
‏تقنيّات متعدّدة ومنوّعة كوّنت تجربة الفنّانة، خاصةً تلك التي كانت شائعة في ستينيّات القرن الفائت، بلوغاً إلى زمن التجهيز والفيديو والفوتوغرافيا وأدوات الميديا الحديثة. استخدمت الفوتوغرافيات في الكثير من أعمالها كركيزة لطباعة الشاشة الحريريّة (silk screen). ومضت كذلك نحو أسلوب الـ «بوب آرت» على غرار آندي وارهول، فصدمت العالم عام 2013 ببندقيّتها المقاومة المزيّنة بالزهور. وأعادت صوغ الحكاية الفلسطينيّة ومفردات التراث الشعبيّ بأحدث وسائل التعبير الفنّي. أي أنّها سخّرت كلّ التقنيات والأساليب الحديثة لخدمة قضيّة شعبها، فاتخذت هذه القضيّة أبعاداً أوسع وأعمق من خلال أعمالها.
عام 2011، نفّذت ليلى الشوّا ‏نحتاً سلسلة أعمال منحتها عنوان «أجساد قابلة للتصرّف»، مستعيدةً الأسطورة التي تنطوي على خيال الجسد الذي نراه واحداً لكنّه ذو احتمالات متعدّدة. فالتزامها السياسيّ والنضاليّ وتركيزها على المأساة الفلسطينية لم يمنعاها من التفنّن زخرفياً، قائلة: «هدفي أن أرسم ما أودّ رسمه، فهذا بلدي، وهذا تراثي، وأعتقد أنّ ذلك يكفي ليعكس فلسطينيّتي. حين أعرض لوحاتي في معارض أجنبية وعربيّة يدرك الناظرون إليها أنني فنّانة فلسطينيّة، علماً أنّني لا أقدّم صوراً مباشرة إذ أعتبر أنّ المباشرة في الفنّ هي عمل دعائي، ومن ‏غير الضروري أن ينخرط جميع الفنانين الفلسطينيين في هذا الاتجاه».
‏اتّحدت ليلى الشوّا بغزّتها وبفلسطينها على نحو عضويّ لا انفصال عنه ولا انفكاك. جميع أعمالها تدلّ على هذا الاتّحاد بالوطن وقضيّة شعبه وآلامه وعذاباته وشهاداته المستمرّة حتّى الساعة. جمعت بين الواقع والحلم والذكرى تحت عنوان يمكن منحه لمجمل أعمال ليلى الشوّا الباقية: «جماليات فلسطينيّة». وإن خالطت تلك الجماليات عذابات ومآسٍ لم تنته حتى ساعة غياب هذه الفنّانة الكبيرة، المنتميّة إلى غزّة وإلى كلّ فلسطين.