يقول أحد السيّاح اللبنانيين الذين زاروا إسطنبول أخيراً، إنّ أيّ ممثل سوري أو لبناني تطول غيبته هذه الفترة، يمكن أن نجده في تلك المدينة التركية. إذ تشهد الأخيرة (وبعض المدن التركية الأخرى) هجرة من نوع آخر يلاحظها السائح في شوارعها وأحيائها. فقد باتت الفنادق في «مدينة التوليب» مكتظة بعشرات الممثلين السوريين واللبنانيين الذين أتوا لتصوير مسلسلات تنتجها شبكة mbc وتعرضها على شاشتها كما على تطبيق «شاهد» المنضوي تحتها. «النصّ نفسه، الحوارات ذاتها، حتى ثياب الممثلين متشابهة». بهذا الانطباع يخرج المتابع للمسلسلات العربية المشتركة التي تعرضها mbc والمأخوذة عن فورما مسلسلات تركية. من يشاهد الأعمال التركية الأصلية ويقارنها مع النسخات العربية المستحدثة، يتساءل عن هدف تقديم ذلك المحتوى الذي يمكن اختصاره بـ «النسخ واللصق»، وسط الحديث عن ميزانية مالية ضخمة تُرصد لها.

يتعرّض مسلسل «ستيليتو» لانتقادات واسعة

قبل نحو ثلاثة أعوام، أدخلت mbc نوعاً جديداً من المسلسلات إلى الشاشة الصغيرة التي تنتجها شركة «O3 ميديا» (تملكها الشبكة السعودية وفرعها الأساس في تركيا). البداية كانت عام 2019 مع النسخة العربية من المسلسل التركي «عروس إسطنبول» وجمعت التونسي ظافر العابدين واللبنانية كارمن بصيبص وغيرهما. كرّت سبحة تلك المشاريع لاحقاً من بينها «ع الحلوة والمرة» الذي جمع نيكولا معوّض وباميلا الكيك وآخرين. وهناك «ستيليتو» الذي يعرض حالياً وهو النسخة المستحدثة عن التركي «جرائم صغيرة» ويضم كاريس بشار وقيس الشيخ نجيب وسامر المصري وندى بو فرحات وبديع ابو شقرا. يتعرّض «ستيليتو» لانتقادات واسعة، إذ يشبّه بعضهم حواراته بأنها «صفّ حكي» فقط. علماً أنّ العمل يقوم في الأساس على حوارات بين مجموعة من الأصدقاء القدامى يجتمعون مجدداً للانتقام.
لم تكتف القناة بتلك الأعمال فحسب، بل تصوّر حالياً مسلسلَي «الخائن» الذي سيجمع سلافة معمار وقيس الشيخ نجيب وغيرهما، و «ويبقى الحب» (عرض في تركيا عام 2008) الذي يلعب بطولته باسل خياط ورفيق علي أحمد وآخرون. مع العلم أن غالبية تلك الأعمال تدور في فلك قصص الحب والخيانة وسبق أن عرضتها القنوات التركية قبل سنوات طويلة وهي متوافرة على الصفحات الافتراضية والمنصات العربية مدبلجةً إلى اللهجة السورية.
في المقابل، تستنسخ القناة السعودية تلك المشاريع عن أمها الأصلية بكامل حواراتها ولقطاتها وموسيقاها، باستثناء إلغاء المشاهد التي تتضمن القُبلات والمشاهد الجنسية.
وتتجه الأنظار اليوم نحو مسلسل «الخائن» الذي غاص بنسخته التركية في العلاقات الجنسية والخيانة الزوجية، ويروي قصة امرأة ناجحة يخونها زوجها مع فتاة أصغر منها. فكيف ستترجمه الشبكة السعودية إلى العربية؟
هكذا، نفضت الدراما الحديثة «الغبار» عن مجموعة من الممثلين السوريين واللبنانيين الذين غابوا فترةً عن الساحة الفنية، وقدّمت لهم الشبكة عروضاً مادية مغرية يصعب رفضها. تلك الإغراءات جذبت الممثلين الذين وجدوا أنفسهم في مشاريع يستمرّ تصويرها نحو عام، وسط أداء باهت لهم من دون أيّ تميّز.
في هذا السياق، تلفت المعلومات لـ «الأخبار» إلى أن mbc تستحوذ حالياً على أكبر عدد من الممثلين اللبنانيين والسوريين الذين عانى بعضهم، من مشكلات اقتصادية جمعت البلدين من بينها ارتفاع سعر الدولار مقابل الليرتين السورية واللبنانية، واحتجاز الودائع في المصارف اللبنانية. توضح المصادر بأن أولئك الممثلين وجدوا أنفسهم أمام عرض مالي مغرٍ، بعيداً عن البُعد الفني والدرامي للمشروع. ترى المصادر أن الشبكة السعودية تحاول خلق دراما جديدة تكون سبّاقة فيها على القنوات الإماراتية والقطرية التي تشهد فورة حالياً، فلم تجد أسهل من التركية التي تستقطب المشاهد العربي الذي تجذبه قصص الحبّ والغرام. لذلك، أعادت موضة المسلسلات ذات الحلقات الطويلة التي تتخطى الـ 90 حلقة، كي تكون رائدة في تلك الصناعة.
انتشار هذه الموضة الدرامية يطرح العديد من الأسئلة حول الأسباب التي تدفع mbc للاعتماد عليها، في وقت لا تقدّم فيه أيّ جديد باستثناء التصوير المبهر واللوكات العصرية للنجمات، بخاصة أنّ كبسة زرّ واحدة على يوتيوب وبعض المنصات العربية، كفيلة بمتابعة أيّ مسلسل تركي مدبلج إلى اللهجة السورية. كيف يقيّم بعض الممثلين والكتّاب هذه التجربة اليوم في ظل التغيرات الحاصلة في الخريطة الدرامية الرمضانية وخارجها؟
في هذا الإطار، تشير المعلومات إلى أنّه خلف موضة الأعمال التركية المستنسخة، يقف العامل السياسي بقوّة لدعم تلك الصناعة السعودية. وتوضح المصادر أن العلاقات بين تركيا والسعودية، قد تأرجحت في الأعوام الماضية بين العلاقات الوطيدة والقطيعة، وكان الأمر ينعكس على المحتوى الدرامي والفني. عام 2007 كانت mbc عرّابة دخول الدراما التركية المدبلجة إلى اللهجة السورية إلى العالم العربي. هذا الأمر كانت له انعكاسات إيجابية في جذب الإعلانات للقناة التي تأسست في تسعينيات القرن الماضي. كذلك، فتح ذلك شهية المحطات الإماراتية والقطرية واللبنانية لاحقاً، لتعزيز سوق المسلسلات التركية ودخولها عالم الدبلجة للسورية.
لسنوات طويلة، رفعت الشبكة لواء الدراما التركية، قبل أن تقلب الطاولة عام 2018 وتقرر تجميد المسلسلات على شاشتها وعلى «شاهد»، إثر الحرب القطرية السعودية ووقوف تركيا إلى جانب الدوحة. هنا دخلت اللعبة السياسية بشكل واضح، وقالت الرياض لا للدراما التركية. يومها راحت المعلومات تتحدث عن خسارة mbc ملايين الدولارات وتراجع نسبة المشاهدة لديها، ما أقلق القائمين عليها.
لكن العلاقات السياسية بين تركيا والمملكة بدأت بالتعافي مع الصلحة القطرية السعودية، وعادت الشبكة التي يديرها ولي العهد محمد بن سلمان، إلى بث الدراما التركية.
هذا العام، شهدت العلاقات السياسية بين تركيا والمملكة تعافياً لافتاً. بعد زيارة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان للمملكة في وقت سابق هذا العام، توجه ابن سلمان إلى أنقرة في حزيران (يونيو) الماضي. وقال مسؤولون أتراك خلال تلك الزيارة إن البلدين رفعا القيود على التجارة والرحلات الجوية وعرض المسلسلات التلفزيونية، مع وقف التغطية الإعلامية السلبية المتبادلة أيضاً.
يبدو التوسع السعودي الفني في تركيا في أوجه هذه الفترة. فقد أعلنت mbc أول من أمس عن توقيعها عقد شراكة مع شركتَي الإنتاج التركيّتين Medyapim و Ay Yapim. ولفتت الشبكة في بيان لها إلى أن الشراكة بين الطرفين تستمرّ خمس سنوات وهي عبارة عن بثّ مجموعة من المحتوى التركي حصرياً مع مجموعة mbc. وكشفت الشبكة عن تطوير وتكليف عدد من الإنتاجات باللغة العربية، لافتة إلى أنّ المجموعة ستتعاون مع شركتي الإنتاج التركيتين لتطوير وإنتاج محتوى باللغة العربية، مع البدء في تصويره في المملكة والمنطقة في السنوات المقبلة.
وسط هذا التوسّع الدرامي والفني الذي لم يعد خفيّاً على أحد، كيف يقرأ بعض الكتّاب والممثلين هذه الدراما؟ وكيف يتمّ تقييم هذه التجربة بين النجاح والفشل؟ في هذا الإطار، تجيب كلوديا مرشيليان قائلةً «إنها نمط جديد من الدراما ولا مجال للمقارنة بينها وبين باقي الأعمال التي بثتها الشاشات في السنوات الماضية. مثلاً إن «روبي» (إخراج رامي حنا/ عرض عام 2012) الذي يعتبر أول مسلسل عربي مشترك، عرّبته لكنني أجريت تغييرات في نهايته وبعض الشخصيات. لكن هذا النوع الجديد من الدراما التركية لا يشهد أيّ تعديل أبداً».
تتوقف مرشيليان عند نقطة أساسية في المسلسلات التي تعرضها mbc، متسائلة «لست ضدّ هذه التجربة أبداً. الغريب أن المشاهد يعرف نهاية هذه المسلسلات المستنسخة وهي متوافرة على المنصات ويوتيوب، لكنه يتابعها يومياً. لا تشويق ولا دهشة ولا مفاجآت فيها. بل إنّ الدهشة أصبحت في عالم آخر من خلال المقارنة بين الأبطال الأتراك والعرب والأماكن التي يتم فيها التصوير. في الماضي، كان يستوقفني الناس في الشارع ليسألونني عن نهاية المسلسل الذي كتبته. لكن اليوم هذه المسلسلات ذات نهاية واحدة ثابتة في النسختين العربية والتركية. في العموم، أجد هذه التجربة جيدة وتحتاج إلى جرأة لتقديمها للمتابعين، فهي مليئة بالإبهار ولكن من زاوية أخرى، لا نعرف عمر هذه التجربة لكنها أحدثت فرقاً».
استقطبت هذه الأعمال الممثلين اللبنانيين والسوريين وسط الأزمة الاقتصادية والمالية التي يعانيها بلدهم


بالنسبة إلى مرشيليان، فإن تلك المسلسلات لها نتائج إيجابية تنعكس على عمل الممثلين السوريين واللبنانيين الذين عانوا من أزمات مالية جراء الأوضاع في البلدين، «لقد صنعت تلك المشاريع نجوماً جدداً على الساحة الفنية من بينهم كارمن بصيبص التي لمع نجمها في «عروس بيروت». كذلك، عرفت تقلا شمعون شهرة واسعة في ذلك المسلسل من خلال دور الأم القوية والمتسلطة».
من جانبه، يلفت الكاتب شكري أنيس فاخوري في حديثه معنا إلى أن البرامج والمسلسلات التركية غزت الشاشات العربية لسنوات طويلة، و«صارت جزءاً من ثقافتنا، وعلى شوي من تراثنا». يوضح السيناريست اللبناني «لا مشكلات في هذه الدراما، بل لها حسناتها من خلال تشغيل طاقم فني كبير. سبق أن طُلب مني تقديم نسخة مترجمة من «نساء في العاصفة». بدأنا العمل فيها، ولكن لاحقاً لم أقتنع بالفكرة. فمن يريد مشاهدة «نساء في العاصفة»، يمكنه الحصول على النسخة اللبنانية. إن الصناعة التركية تدخل ملايين الدولارات إلى تلك البلاد، وتقوم على الدعاية والسياحة والمال وإظهار الجمال التركي النسائي».



ممثلون لبنانيون: صمت مطبق
لم يكن بالإمكان تقديم تحقيق عن الدراما التركية المستنسخة من دون التوقّف عند رأي بعض الممثلين اللبنانيين بتلك المشاريع. لكن المفاجأة تمثلت في رفض مجموعة من الممثلين، إعطاء رأيهم حول تلك الأعمال، تخوّفاً من وضع mbc إشارة حمراء عليهم وعدم التعاون معهم في المشاريع المقبلة. فقد أجمع الممثلون على أن الشبكة السعودية تفتح أمامهم اليوم «باب رزق» واسعاً، وإن أي كلمة أو عبارة قد يتم التصريح بها، قد تحدث أزمة بينهم وبين القائمين على المحطة. يؤكد الممثلون الذين يرفضون الكشف عن أسمائهم، أنّ المسلسلات اللبنانية شهدت تراجعاً كبيراً في السنوات الأربع الأخيرة بسبب الأزمتين الاقتصادية والسياسية في البلاد، وسط ارتفاع سعر الدولار الجنوني مقابل الليرة اللبنانية. لكن جاءت المشاريع السعودية لإنعاش السوق بعدما جلست غالبية الممثلين في منازلهم.
كان لافتاً أنه بجردة سريعة على أسماء الممثلين اللبنانيين، نجد أن غالبيتهم قد تعاونوا مع الشبكة السعودية في الأعمال التي تقدمها، لكنهم يفضلون الوقوف على الحياد ولو كان رأيهم موضوعياً أو معتدلاً.
في هذا الإطار، تلفت ورد الخال لنا إلى أن المشاهد يميل نحو الدراما التركية لأنه يحبّ قصصهم الحياتية واليومية. وتقول الممثلة اللبنانية «المشاهد يحبّ قصص الحب والخيانة وعلاقات الناس، والتي سبق للدراما اللبنانية أن ناقشتها. لا أجد مشكلة في تلك الدراما، لأن ذوق المشاهد متفاوت بين الرومانسي والأكشن والدرامي وغيره». في المقابل، تتوقف عن نقطة مهمة في تلك الأعمال موضحة «هذه الأعمال التركية أعادت البريق إلى الشاشة الصغيرة بعدما توقع بعضهم أن يذهب عصر التلفزيون إثر دخول المنصات بقوة. جاءت لتؤكد بأن التلفزيون لا يزال على حاله وله متابعوه ولم تلغه المنصات». على الضفة نفسها، يتساءل بيار داغر، عن هوية تلك المسلسلات، مضيفاً «في العالم العربي لدينا تاريخ فني غنيّ، نعمل عليه. التقليد في أكثر الأحيان لا يليق بنا».