في لبنان، مسار الأمور، من صغائرها إلى كبائرها، يخضع بنسبة مزعجة وأحياناً قاتلة، للحظ والمصادفة. الحياة تخضع لهذه السلطة الغامضة، لكن من واجب الإنسان العمل على التخفيف من حدّتها بالعقل والعلم والقانون، وهذه أدوات معطّلة في لبنان، وفي أحسن الأحوال مكبّلة وهامش تأثيرها يُراوح بين الطفيف والمُعدَم. لهذا السبب، يحصل أن «ينفد» مهرجان موسيقي بموسمٍ ما، في حين لا يحالف الحظ مهرجاناً آخر بعيداً عنه زمنياً بضعة أيام! ففي بضعة أيام لا أحد لديه أي تصوّر ولو مبدئياً ونسبياً لِما قد يحدث، وقد حَدَث فعلاً ما عطّل الكثير من الدورات لهذا المهرجان أو ذاك، من بينها Les Musicales de Baabdath، الذي يعود هذه السنة بعد غياب قسري تام أو تعثّر نسبي في المواسم الثلاثة السابقة، بفعل الانتفاضة الشعبية في تشرين الأول (أكتوبر) 2019 وبسبب جائحة كورونا في عامي 2020 و2021. المهرجان الجديد نسبياً (هذه دورته السادسة) تطوّر في السابق تدريجاً، وها هو يعود اليوم إلى النقطة التي توقّف عندها قبل أربع سنوات، في محاولة لإعادة إطلاق مسار تطوّري للسنوات المقبلة التي قد تحضن هذه الرغبة أو تعطّلها. لا شيء أكيداً سوى أننا سنبقى في حالة الـ«لا شيء أكيد».

البرنامج يحمل أمسيةً لا نعتقد أن لبنان شهد مثيلاً لها هي أمسية آرون بيلسان

بدايةً، ونتيجةً للانقطاع الآنف ذكره، سنعيد التذكير ببعض ملامح هذا المهرجان العامة. أولاً، ارتأى المنظّمون أن الترجمة العربية لاسم المهرجان هي «موسيقيات بعبدات» (البيان الرسمي للدورة الحالية)، في حين يمكن اجتهاد وتبنّي اسم «موسيقات بعبدات»، علماً أن الدقّة غائبة في الحالتَين. في الحالة الأولى، الترجمة العكسية تعطي Les Musiciennes وفي الثانية Les Musiques، وهي التي نراها أقل إبهاماً من الأولى التي توحي بأن المهرجان مخصّص للمشاركة الفنية النسائية. ثانياً، في فئته، أي الموسيقى الكلاسيكية الغربية، «موسيقات بعبدات» هو الأجدد، بعد «بيروت ترنّم» و«البستان»، مع الإشارة إلى أنّه متخصّص في فئة موسيقى الحُجرَة. ثالثاً، يتشارك المهرجان مسألة مجّانية حضور الأمسيات مع «بيروت ترنّم»، صاحب الريادة في هذا المجال. رابعاً، لناحية الحجم (مدّة المهرجان وعدد أمسياته) والأهمية الفنية (التصنيف العالمي للفنانين المدعوّين ونسبتهم من مجمل المشاركين) يأتي المهرجان بعد «بيروت ترنّم» في الحالتَين (أقله مقارنةً بمرحلة ما قبل الانهيار)، ويبتعد بشكل ملحوظ عن الأول، أي «مهرجان البستان»، لناحية الأهمية. خامساً، باستثناء فتح أبوابه للجميع بدون تمييز ولا مقابل مادي (وهذا إنجاز ممتاز لا شك)، لا يعمل المهرجان كثيراً على مسألة نزع (أو التخفيف من) صفة النخوية عنه وعن الموسيقى التي يقدّمها، وهي صفة تبقى أقلّ حدّةً وسرياليةً (وفيها حتى شيء من الصحّة) من الوصمة الأرستقراطية أو البرجوازية التي أُلصِقَت جزافاً بالكلاسيك (وفي الحالة اللبنانية تضاف تلقائياً هنا صفة «فرنكوفونية» رغم انحسار الأخيرة في العقود الثلاثة الأخيرة) والتي نشعر فعلاً أنها الأقل التصاقاً بـ«بيروت ترنّم» مقارنةً بزميلَيه.

جمع كريم سعيد موسيقيين لبنانيين هاجروا إلى عمّان ليكونوا جزءاً من أوركسترا من تأسيسه

هذا عموماً. أما في ما خصّ هذه السنة، فأولاً نتمنّى صدقاً أن تمرّ الدورة بدون مفاجآت «لبنانية» غير سارّة. ثانياً، لا شك في أن مستوى الدورة لائق وشيّق جداً، نسبةً إلى ما يمكن إنجازه حالياً في ظل القيود، المصرفية أولاً، وغيرها طبعاً. لا بل يمكن الجزم بأن البرنامج يحمل أمسيةً لا نعتقد أن لبنان شهد مثيلاً لها في تاريخه (على جيل ما قبل الحرب أن يسعفنا بمعلوماته في هذا المجال) ونقصد المحطة الثانية (21/10) التي يحييها عازف البيانو النمسَوي الشاب الواعد جداً آرون بيلسان في «كنيسة القديس يوسف» في الأشرفية (كل المواعيد الأخرى تجري في «الكنيسة الجديدة» في بعبدات) وفيها يؤدي عملاً ضخماً لباخ هو الكتاب الأول من تحفته المسمّاة The Well-tempered Clavier الذي تبلغ مدّة أدائه حوالي ساعة وثلاثة أرباع الساعة ويحوي 48 مقطوعة مقسّمة إلى 24 وحدة، تتألف كل منها من مقدّمة و«فوغ» (fugue) على النغمة نفسها، وكل وحدة مبنية على نغمة من النغمات الـ24 في السلّم الموسيقى الغربي، 12 على السلّم الكبير (major) و12 على السلّم الصغير (minor)، وعذراً على هذه التعقيدات، التي تبقى أقل تعقيداً وأقلّ جمالاً بكثير من العمل بحد ذاته. بيلسان الذي سجّل هذا العمل قبل سنتَين ونال عنه تقدير النقّاد (5 «ديابازون» من مجلة «ديابازون» على سبيل المثال) يقدّم ريسيتالاً ثانياً مساء الأحد المقبل في «الكنيسة الجديدة» (بعبدات) ببرنامج مختلف (إينسكو، لِيسْت، شومان وعمل لليد اليسرى لبرامز مبني على الـ«شاكون» الشهير لباخ وهو للكمان المنفرِد بالأساس). هذه قنبلة المهرجان. أما الافتتاح هذه الليلة، فهو من نصيب الأطفال والكبار أيضاً وفيه نسمع «بيار والذئب» لبروكوفييف بصوت إيتيان كوبيليان (الذي أدّاه بشكل ممتاز قبل مدّة في جامعة الـ«ألبا») راوياً الحكاية الموسيقية برفقة «بيروت سينفونييتّا»، المجموعة الموسيقية الناقصة للأسف نسبةً إلى متطلّبات العمل، لكنها تنفّذه مشكورةً بالتي هي أحسن.
جديد المهرجان أمسية جاز تفصل بين شطرَي الدورة


من جهة ثانية، يعود عازف البيانو الأردني من أصل فلسطيني كريم سعيد إلى بيروت بعدما زارها مؤدّياً «تنويعات غولدبرغ» لباخ بشكل جيد جداً. هذه المرة يجمع سعيد حوله موسيقيين لبنانيين هاجروا إلى عمّان ليكونوا جزءاً من أوركسترا من تأسيسه (جنى سمعان، إيهاب جمّال، ريبال ملاعب، بالإضافة إلى موسيقيين آخرين) في أمسيتَين (25 و27 الجاري) نسمع خلالهما أعمالاً جرمانية بشكل أساسي، رومنطيقية بغالبيّتها، من فئة الحُجرَة لبيتهوفن ومندلسون وبرامز وشومان وبروخ وموزار، في حين ينفرد العازف المرموق بقطعة لشوبان… وأيّ قطعة! أما الجديد في سياسة المهرجان، فهي أمسية الجاز التي تفصل بين شطرَي الدورة، ويحييها عازف البيانو الأرمني اللبناني أرتور ساتيان (3/11) مع رفيقَيه ختشاتور سافزيان (كونترباص) وفؤاد عفرا (درامز). يلي الجاز مع ثلاثة من أفضل رموزه المحليين أمسية تمتد من باخ حتى كوميداس (6/11)، مع موهبتَي الكمان اليافعتَين كيفن كنعان وآني ميليكيان اللذين ترافقهما في بعض المحطات ليانا هاروتونيان (بيانو). قبل الختام، موعدٌ في الثامن من الشهر المقبل مع ثلاثي ألماني (كمان/ تشيلّو / بيانو) يؤدّي أعمالاً لشوبرت ومندلسون وبولنك، بالإضافة إلى عمل للمؤلف اللبناني الراحل توفيق سكّر، في حين تُختتم الدورة في 12 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل مع مجموعة من الطلاب الموسيقيين الذين سيخضعون لصفوف خاصّة على أيدي الضيوف الموسيقيين المحترفين خلال المهرجان، في حين برنامجهم لهذه الأمسية لم يُحدّد بعد.

* Les Musicales de Baabdath: س:20:00 مساءً بدءاً من 19 تشرين الأول (أكتوبر) حتى 12 تشرين الثاني (نوفمبر) ـــــ lesmusicales.org