ليس بالاستطاعة في مقالة قصيرة استيعاب تراث أدبي وشعري جدير بالتوقّف والاستزادة منه بوجه خاص إذا كان يشكل همزة وصل بين الأصالة، وبين التجديد لجهة الصورة الشعرية المنبجسة معيناً يتّكئ على ثروة لغوية هضمها الشاعر وأخرجها في قالب فريد.الفقيه والأديب المرموق والأديب الشاعر صاحب الزهد السيد عبد اللطيف فضل الله العاملي (1904-1991). شعره مسكونٌ بالحرارة المنبعثة من تواصل حي مع تربية وتحصيل ديني وأدبي غني مستبطن لمشروع ورؤى للوجود وللإنسان تفتَّح منه سلاسة شعرية، فمن أول شعره إلى آخره نجد تصاعد النبرة الشعرية بلا وهن في جدلية يلفها الدفق الإنساني الذي يضبطه تأمل عميق ومميز.


يزيدك شعره حيرةً وطرباً في لغة رشيقة ومعان جليلة، عندما يتناول المناجاة فيرْشح منها الصفاء في تقنية فنية توسّلت العنصر الطبيعي بألوانه شتى:
حفلت برحمتك السماء فأغدقت/ وتلألأت بمشارق الأضواءِ
والغيثُ أحيا الأرضَ بعد مماتها/ فبدت بطلعة حسنها الغرّاء
بسط الربيع بساطه فزهت/ به وتبسمت عن روضة غنّاء
تتلو بها صحف الجمال كأنها/ صحف السماء بألسن القرّاء
وحبكت في شهب النجوم سماءها/ غرراً زهت ومراتباً لضياءِ
آمن بضرورة التحرر من الملوثات الدنيوية التي تعيق فوران الذات وحركيّتها، فالتعفّف أو العفة من أساسيات كمال النفس في صراعها مع المؤثرات المادية المحبطة التي تتنازعها:
تعففت والدنيا لمن هان جنةٌ/ فألفيت في الحرمان غاية مطمعي
فالزهد السلوكي قوامه الموقف العملي الرافض لكل الأباطيل والزيف اللذين يميتان القلوب:
نبذت أباطيل الحياة لمن بكى/ عليها بكاء الفاقد المتلوّعِ
لا يغرق الحس الإنساني الأصيل المتزن في الخيال، بل ينفتح على جمالية التأمل الذاتي:
أمنتجعاً قسط الحياة يروضها/ ويرقب من شمس الهدى خير مطلعِ
ليس الخروج من الألم والمعاناة بالأمر الهيّن، بل يتطلب نفساً أبية وعزيمة صلبة تعتصر ذاتها كي تقدم العبرة للغير:
صحبتك يا دهر فيمن صحب/ حليف البلاء قرين النصب
فهل قد حسوت سلاف الدنان/ ودارت بعقلك بنت العنب
ومذ أشرقت فيك نفسي علا/ وعفت الدنية حظي غرُبْ
لئن ضاع حقي هدراً لديك/ فلست بأول حر نُكِب
التسامي فوق المقيدات وعمادها الأنانية تحتاج إلى إنسان يعبر على جسور المحبة التي تشد أزره وتعيده إلى لغته النقية المنفتحة على رحابة القيمة ما يخلق فيك دهشة متناهية:
هل أمرع الحب تزهو فيه دنيانا/ وطهر الله من لؤم نوايانا
وهل شربنا على ذكراه صافية/ كأس المودة ألافاً وإخوانا
وهل أفاض علينا الطهر فامتلأت/ أرواحنا منه إشفاقاً وتحنانا
لا يمكن القول إن الإيقاع وحده في الشعر هو الوزن تحديداً، بل ما يتقنه الشاعر من ضم كل المستويات البلاغية واللغوية في قالب منظم ومنساب مع المعنى بلا تقهقر بحيث يأتيك المشهد الشعري مستثيراً لكوامنك ويجعلك تهتز وتطرب وهذه هي روح الشعر:
ربّ كأسٍ شربتها منه صرفا/ بحشاها تامور قلبي صبَّا
هاك ناراً صليتها ودموعاً/ بعثتها لواعج الوجد سحبا
لك فيها رؤيةٌ عن محب/ قتلته الأقدار فيمن أحبَّا
سل عن البين كيف جار ولكن/ لا تسل عن عذابه كيف صُبا
ويقول:
تذوب مع الأشواق روحي قصائداً/ شوارد يرويها الزمان لشاردِ
علائق حب ما أفاءت ليقظ/ ولا حلّ فيها الدهر عقدة عاقدِ
يطوف فيسقيني من الراح خمرةً/ جنى النحل فيها من سموم الأساود
كأن السحاب الجون يمّم نحوه/ سريع الخطى في برقه والرواعد
فأنبته غصناً من البان أملداً/ وباقة زهر للحسان الخرائدِ
تفجر غزله عذوبة وجمالية في نظم عفوي وفني فائق الدقة والتصوير فأجاد أكثر من غيره من الشعراء ومنهم الأخطل الصغير في تشبيهه عندما قال الأخطل:
قتل الورد نفسه حسداً منك/ وألقى دماه في وجنتيك..
أما السيد الشاعر فقال:
سفرت والوجه أحلى ما سفر/ ما هي الشمس وما وجه القمر؟
ولادةٌ للشمِّ سكرٌ للحشا/ نغمة للسمع... نور للبصر
قبّلت مبسمها شمس الضحى/ وعلى وجنتها الورد انتحر..
إنها لعبة الشعرية العالية في دقتها وجدَّتها التي لا تعترف بالحدود، بل تنتشل المألوف من قعره حتى تطير به إلى آفاق عوالم صوفية لا تفارق الواقع، بل تمسح على جبينه المندّى وتبلسم جراحه وتسعف نفسه المتشظية، هكذا الشعر العاملي عوَّدنا أن ينضح بتجارب لها مالها من فرادة وأغراض تنسحب على مساحة الألم والأمل والحب والأنسنة والأنفة والإباء والشموخ.

* كاتب لبناني