«حدث الكثير من ذلك بالفعل»، هذه العبارة غير المألوفة عند بداية فيلم، هي محل استفهام. ولكن عندما تكون جملة الافتتاح لفيلم من إخراج ديفيد أو. راسل، فهي بالتأكيد معبرة جداً وتذكرنا بأشياء كبيرة وتوعدنا بالكثير. ما زلنا نتذكر جملة البداية من فيلم راسل American Hustle (2013)، التي تشبه هذه الجملة الافتتاحية. وقتها مزج راسل بين الواقع الخيال ليقدم قصة من مكتب التحقيقات الفدرالي أدت إلى كشف الكثير من الفساد في الحكومة الأميركية. بعد عقد من الزمن تقريباً، يعود المخرج ليقدم فيلمه «أمستردام»، ويفتتحه بالجملة أعلاه، ومرة أخرى يمزج بين الواقع والخيال.

القصة الحقيقية وراء هذا الفيلم، هي مؤامرة سياسية حدثت عام 1933، عندما قام رجال أعمال ومصرفيون أميركيون بالتخطيط لانقلاب عسكري للإطاحة بالرئيس فرانكلين روزفلت واستبداله بمنظمة فاشية تشبه إدارة موسوليني في إيطاليا، ومتطلّعة لصعود هتلر في ألمانيا. قاعدة هذه المنظمة هي المحاربون القدامى في الحرب العالمية الأولى برئاسة لواء مشاة البحرية الأميركية، سميدلي بتلر. كشف بتلر عن المؤامرة التي يتم تدبيرها بعدما أطلعه الصناعيون الأثرياء عليها، وسخرت وسائل الإعلام منه بعدما كشفها في شهادة قسم أمام اللجنة الخاصة المعنية بالأنشطة غير الأميركية في مجلس النواب الأميركي. وفي عام 1934، أثبتت لجنة تحقيقات في مجلس النواب أن المؤامرة تم تدبيرها بالفعل، ولكن لم تتم مقاضاة أي من المتآمرين. لرواية هذه القصة الحقيقية، مزج راسل قصة خيالية لثلاثة أصدقاء: جنديان وممرضة أبرموا ميثاقاً للاعتناء ببعضهم البعض، بغض النظر عن السبب. بعد مكيدة مدبرة، وجد بيرت (كريستان بيل) وفاليري (مارغوت روبي) وهارولد (جون ديڤيد واشنطن) أنفسهم في قلب تحقيق في جريمة قتل، وأصبحوا هم المشتبه بهم الرئيسيين. لذلك، لإثبات أنهم ليسوا المسؤولين عن الموت الغامض لليز (تايلور سويفت)، وجدوا أنفسهم في مؤامرة أكبر لقلب نظام الحكم في الولايات المتحدة الأميركية.

واضح منذ البداية أن الشخصيات الثلاث الرئيسية تعمل بطريقة كاريكاتورية فكاهية جميلة. يمنح بيل وروبي وواشنطن الحياة لشخصيات غريبة الأطوار كسبت حبّنا، بشكل أساسي من خلال الهروب من الكليشيهات الشائعة لدى أبطال الأفلام، بخاصة بيل. مرة أخرى بعد The Machinist (2004) وسلسلة «باتمان» لكريستوفر نولن وطبعاً American Hustle، يحول بيل جسده ويستعمله في التمثيل ويلبس جلد جندي سابق بعين زجاجية مليئة بالكاريزما. ولكن بعدما كسبنا راسل في بداية القصة والشخصيات الثلاث، تركنا كما شخصياته بسبب سرعة الفيلم والإثم في محاولة العثور على وقت على الشاشة للكثير من الممثلين المشاركين: أنيا تيلر جوي، زوي سلدانا، كريس روك، رامي مالك، روبرت دي نيرو (في دور اللواء). مع النص المتذبذب الذي يصبح أحياناً متعباً بسبب الكثير من الشخصيات المهمة التي تأتي وتذهب، كان واضحاً أن راسل يكافح كثيراً لتقديم أفكاره، ما جعل الفيلم مركّباً بطريقة اصطناعية. لذلك، أينما نظرنا، لا يبدو أن الفيلم قد نجح، حتى بمشاركة هؤلاء الممثلين، بالإضافة إلى أحد أكبر وأهم مصممي الملابس في هوليوود، ألبرت وولسكي، الذي سيبلغ 92 عاماً، مع جائزتي أوسكار في منزله. صنع وولسكي لهذا الفيلم ملابس ذات ذوق رائع، إلى جانب إيمانويل لوبيتزكي (تشيفو)، مدير التصوير العبقري. إلا أن «أمستردام» لم يتمتع بالنعمة التي حصل عليها بجمع كل هؤلاء، ولا بالنضارة التي يمكن أن نتخيلها مع كل هؤلاء. لأكثر من ساعتين، نتساءل: هل «أمستردام» أسوأ فيلم لراسل. لا، Joy (2015) لم يُهزم بعد. ربما يمكننا القول إن هذا هو مشروعه الذي كان يحلم بإنتاجه، لكن لا توجد طريقة لعدم الشعور بالأسف تجاه جميع المشاركين في الفيلم. لا شيء يقودنا إلى نقطة تبرير، أو إلى شيء يليق بالطموح. مثل معظم حياته السينمائية، مع القليل من الاستثناءات، يبدو أن مخرج فيلم Silver linings Playbook يبيعنا مرة أخرى منتجاً بدلاً من صنع فيلم.
ينقسم الفيلم إلى قسمين: الأول مرح يرمز مع هوس أبطاله بالدادائية، وآخر قلق إزاء صعود الفاشية


من ناحية، يسحرنا الفيلم بمشاهده بقيادة لوبيتزكي، وبأضوائه وباللقطات المقربة المستوحاة من الأحلام والدادائية (الظاهرة في كل مشهد وحتى في الإعدادات النهائية) التي تضفي طابعاً سوريالياً تقريباً على العمل، مع أجواء نيويورك الساحرة في ثلاثينيات القرن الماضي. ومن ناحية أخرى، هناك الأزياء العظيمة بقيادة الأسطورة وولسكي، وطبعاً طاقم التمثيل. هذه الجماليات تجعلنا ننسى لبعض الوقت سوء الفيلم، ولكنه يذكرنا بالمقولة الفرنسية الشهيرة «الجمال هو خطاب توصية صالح لفترة قصيرة». لذلك، «أمستردام» يشبه كثيراً فريق كرة قدم مع الكثير من اللاعبين العظيمين الموهوبين ومدراء عبقريين، ولكنهم يتميزون بمفردهم، ليس على شكل فريق، والنتيجة: هدف عكسي.
يدور الفيلم في جوهره حول الصداقة والحب، لكن راسل يبذل قصارى جهده لإخفاء هذا الاقتراح الجميل بسرد مثقل وفوضوي. راسل ليس غريباً عن القصص الجامحة والشخصيات الفوضوية، ومع ذلك، فيلمه الأخير هو الأكثر هستيريةً وطموحاً من بينها جميعاً، يعرض موقفاً بعد موقف، تطوراً تلو الآخر، بتشابك مفرط من المؤامرات وعناصر سرد مختلفة. إنها الفوضى، ولكن للأسف، بأسوأ معاني الكلمة. فشل المونتاج في إضفاء الانسيابية على كل ما يريد راسل قوله، العديد من اللحظات لا معنى لها، ووفرة الشخصيات غير منطقية، تماماً كشخصية كريس روك الذي يظهر كل عشرين دقيقة لإبداء تعليق أو نكتة حول العنصرية وتفوق البيض. هذا النقص في الالتزام من راسل في سرد قصته يقودنا إلى الملل، مع حوار ثقيل وسيء ومشاهد منفصلة وسرد، يبدو أنه لا يذهب إلى أي مكان. في الساعة الأخيرة من الفيلم ومع دخول الجنرال جيل ديلبنبيك (روبرت دي نيرو) إلى الفيلم نبدأ بإيجاد إحساس بالتقدم، يدور الفصل الأخير حول بعض الشخصيات التي تكشف عن المؤامرة الفاشية، حيث يتعمق السيناريو في طبقات الهجاء الاجتماعي والحرب. ولكن، حتى هذه اللحظة، فقد السرد اهتمامنا. وحتى تطور هذا الجانب الأخير، كان فوضوياً، مع إضافة مشاهد بطريقة عشوائية ونكات سخيفة وسطحية ونص مباشر مع الكثير من التفسيرات.


من حيث الجوهر، ينقسم الفيلم بين نقيضين: أحدهما مرح، غير مهتم بتماسك قصته وبنيتها ويرمز إلى هوس أبطاله بالفن الموجود والدادائية. وآخر يشعر بالقلق إزاء الصعود المحتمل والخبيث للفاشية داخل الديموقراطية. ولكنّ الاثنين لا يعملان معاً بسبب العديد من الغمزات والحيل بين ما يحدث وما هو متخيل، والملصقات الفنية، والفكاهة التي تأتي في غير محلها. كل هذا يزيل الملحمة ويجعلها خفيفة في الوقت نفسه الذي يصرخ فيه الفيلم ليكون مهماً. وإن كان هناك قصة رمزية حول السياسة المعاصرة، فهي غير مفهومة، لكن هذا لم يضف الكثير إلى الفيلم أيضاً. «أمستردام» بعيد جداً عن الفيلم الذي كان ممكناً أن يكون عليه. يستنفد كل طاقته عبر تحويل الانتباه إلى كل مكان في الوقت نفسه. هو غير قادر على التركيز على فكرة واحدة أثناء محاولة ربطها جميعاً بسرعة. لعل أفضل وصف عن أعمال راسل وهذا الفيلم بالتحديد، هو مصطلح «الواقعية الهستيرية» حيث يتم تضخيم الحقائق وتحليلها في الوقت نفسه، ما يجردها من العاطفة والاهتمام.
ديفيد أو. راسل مخرج حسن النية والبصيرة، لكنه لا يزال يرتكب أخطاءً فادحة، الاعتماد على أسماء كبيرة للتعاون معها والوقوف خلفها هو خطأ لا يغتفر، بخاصة في هذه المرحلة المهنية من حياته. عام 2004 عندما صدر فيلم راسل I Heart Huckabbes، وصف الناقد الراحل روجر إيبرت راسل وأفلامه بأنهما «آلة شيطانية تستهلك كل الطاقة التي تولدها، وتوفر القليل لإيقاف نفسها». للأسف إيبرت ليس معنا ليشاهد «أمستردام» ويتأكّد أنّ لا شيء تغير وأن جملته هذه، تتجلى في جنون العظمة الجديد.

Amsterdam في الصالات