لمرّة نادرة، بدت الشاشات اللبنانية هادئة في مواجهة حدث مفصلي من حجم ترسيم الحدود البحرية بين لبنان و«إسرائيل». لم تكن المحطات التلفزيونية ميّالة إلى مقاربة الموقف بأسلوب حماسي يُعيد تشكيل التفاصيل وفقاً لمعطياتها المسبقة، وأجنداتها المضمرة... فجأة، تجلّى لدى جميعها حرص واضح على تمثيل الموضوعية بأصدق تجلياتها الممكنة. لمرة نادرة أيضاً ظهر نائب رئيس المجلس النيابي الياس بو صعب بوصفه نجم الشاشات، والمؤتمن على كواليسها. لم تجد الوجوه الإعلامية ما يدفعها إلى تضمين ملامحها عبارات معهودة، ومسكوتاً عنها، تشير إلى أن وراء الأكمة ما وراءها. في مسألة الترسيم، لم يكن وراء الحدث ــــ وفقاً لأداء الإعلام المرئي عندنا ــــــ إلا مسبباته وضروراته، وتداعيات فشله المحتمل. في ما عدا ذلك، لم تكن هناك فرصة لإضافة معطيات جديدة إلى المشهد التلفزيوني.



أمام التهذيب الإعلامي اللبناني المباغت، بدا الصخب الذي يثيره الخلاف بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، حول قرار «أوبك بلاس» خفض إنتاجها النفطي، نوعاً من السلوك الشوارعي الخارج عن ضوابط الأخلاق. بدا لبنان الذي طالما كان معنياً بتلقي النصائح والإرشادات من الدول، ولا سيما الكبرى منها، بسبب ارتباك أداء مسؤوليه ووسائل إعلامه، قادراً هذه المرة على توجيه النصح للآخرين بعد الأداء المتزن الذي أبداه حيال قضية الترسيم. وصار بوسعه توجيه الآخرين بمن فيهم الولايات المتحدة والسعودية نحو حسن التصرف!
قناة «الجديد» التي اتصفت بميلها الموروث إلى المقدمات المشتعلة لم تكن تشبه نفسها. حيادية تحاذي الصمت، سيطرت على افتتاحياتها عشية خروج الخبر إلى الملأ، كلمات لا تحتمل التأويل جرى التنقيب عنها في مجاهل اللغة، لتجري صياغتها وفق مقاربة أحادية الدلالة بمثل ما تم استدعاء المهنية المفتقدة منذ زمن طويل...
ذهبت المحطة نحو استقراء الأرقام التي قد تستقر عندها الثروة المرتقبة، وأمكنها وضع مقاربة تقديرية تناهز الـ 300 مليار دولار كحد أدنى.
داليا أحمد استغلت المناسبة لحشو الحلقة الأولى من برنامجها «فشة خلق» بطقوس مهاجمة «التيار الوطني الحر»


في حلقة «هنا بيروت» التي استضافت فيها مذيعة «الجديد» روان أبو خزام النائب الكتائبي سليم الصايغ، تمحور الجدل حول حصة المكونات اللبنانية من الدور المفترض في الإنجاز المتحقق. كان الرجل يناضل من أجل إفساح المجال لخطابه السياسي كي يعثر على حيزه المستقل، ولو من خلال السماح بمناقشة عملية الترسيم في الندوة النيابية، وتفادي نسبة الإنجاز إلى فريق دون آخر.
في المقابل، بدت الفرصة أكثر إغواءً من أن تفوّتها المقدمة داليا أحمد التي استغلت المناسبة لحشو الحلقة الأولى من برنامجها «فشة خلق» في موسمه الثاني، بطقوس مهاجمة «التيار الوطني الحر»، وانتقاد ما اعتبرته سعياً من جانبه للاستئثار بأبوية الحدث، في أداء يفتقد للموضوعية، ويبرر القول بأن داليا تهدف إلى ـــ وتنجح في ـــــ دعم التيار العوني من حيث هي تحاول تهشيمه بسخريتها المزعومة.

mtv أعطت التصريحات الصادرة من الجانب الإسرائيلي أولويةً على تلك الصادرة من الجهة اللبنانية!


محطة mtv جنحت في سياق تغطيتها للحدث نحو رصانة لم تكن تبدي حرصاً عليها في المألوف من أدائها. جاءت أصوات مذيعيها ومذيعاتها خافتة النبرة، سلسة الإيقاع، وبريئة المقصد. دونما حاجة إلى نقاش مستفيض، حسمت المحطة أن الأمر يتعلق بإنجاز افتقد لبنان طويلاً إلى ما يماثله. ركزت على كلام السفيرة الأميركية دوروثي شيا بالرغم من كونه مختصراً. أفردت أيضاً مساحة لموقف وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، وبالتأكيد فقد تعاطت، بما يشبه الاحتفاء، مع اتصال الرئيس الأميركي جو بايدن بنظيره اللبناني ميشال عون..
محطة lbci بدت أيضاً متوخية للموضوعية بأقصى ما يسعها ذلك. كان واضحاً أن القناة تحاول الالتزام بمتطلبات المهنية من دون الغوص عميقاً في تداعيات الموقف، وهو أمر متاح لمن يرغب. في بعض جوانبها ظهرت مقاربتها كما لو أنها تعطي للتفاصيل القادمة من الجانب الإسرائيلي أولويةً على تلك الصادرة من الجهة اللبنانية، وقد لا يتطلب الأمر الكثير من سوء النوايا لتلمس رغبة مضمرة في الإيحاء بأن النتائج مرهونة بما يحسمه «الكابينت» الإسرائيلي، من دون تأثير قاطع للموقف اللبناني.
أمكن للشاشات اللبنانية أن تستفيد من فرصة الترسيم البحري لتعيد ترسيم حدودها مع الحقائق، ومحو الخطوط الوهمية التي ترسّخت وتعمقت بين الرغبة والواقع على امتداد أداء ملتبس.