أوّل من أمس الأربعاء، شهدت سوريا أحد أهمّ الاكتشافات الأثرية في منطقتنا، وربّما عالمياً. مساحة أوّلية تبلغ لغاية كتابة هذه السطور 120 متراً مربّعاً من الفسيفساء مرجّحة للازدياد بعد الكشف على موقع مجاور، أُزيح عنها النقاب في مدينة الرَّسْتن في محافظة حمص. لوحة وُصفت بـ«المذهلة ولا مثيل لها»، تعود إلى العصر الروماني، وتحديداً إلى القرن الرابع الميلادي، توصّل إليها الفريق المختصّ في منزل سكني قديم كانت المديرية العامة للآثار والمتاحف السورية تنقّب فيه، بعدما حصلت عليه بالتعاون مع «متحف نابو» الواقع على شاطئ الهري في شمال لبنان والذي يُعدّ مساهماً أساسياً في الحدث. أعلنت المديرية عن الاكتشاف بمرافقة إعلامية، فيما رصدت عدسات المصوّرين الآثار النادرة ذات الحالة «الممتازة».
(تصوير لؤي بشارة ــ أ ف ب)

يؤكد مدير التنقيب والدراسات الأثرية في المديرية العامة للآثار والمتاحف، الدكتور هُمام سعد، في تصريحات إعلامية، أنّ من بين المشاهد، ما يُظهر تصويراً نادراً لمحاربي الأمازون القدامى في الأساطير الرومانية. ويقول لوكالة «أسوشيتيد برس»: «أمامنا اكتشاف نادر على نطاق عالمي وغنيّ بالتفاصيل... تتضمّن اللوحة مشاهد من حرب طروادة».
تُعتبر هذه اللوحة مهمّة من الناحية الفنية والأثرية، وقد تكون استثنائية ونادرة على مستوى العالم، كونها الأكمل التي تروي قصة حرب الأمازونيات. وهي غنية بالمشاهد، حيث نجد في المشهد المركزي تمثيلاً لـ«أخيل» لحظة مقتل «بنثيسيليا» التي وقع في حبّها. وهناك تمثيل لـ«هرقل» الذي أنهى حياة ملكة الأمازونات «هيبوليتا» واستحوذ منها على الحزام السحري، في واحدة من مهامه الاثنتي عشرة. وهناك إطار آخر للمحاربات الأمازونيات في أرض المعركة مع الطرواديين ضدّ اليونانيين، وقد دُوّنت أسماؤهم بدقّة. ويظهر في اللوحة جنود يحملون أسلحة ودروعاً، وهم في وضعية قتال كما لو أنهم في ساحة حرب، وتضمّ الفسيفساء كذلك كتابات باليونانية، وتصوّر أيضاً إله البحر الروماني القديم «نبتون» وأربعين من عشيقاته.
في هذا السياق، يشدّد سعد لوكالة «فرانس برس» على أنّ «اللوحة عبارة عن مشهد نادر، تبدو فيه بوضوح تفاصيل قطع الفسيفساء، وأسماء ملوك اليونان الذين شاركوا في حرب طروادة». ويشار إلى أنّ هذه الأسطورة موجودة في الإلياذة عند «هوميروس».
اللوحة التي يتجاوز عمرها 1600 عام «ليست الأقدم بين اللوحات السورية، لكنّها الأكثر اكتمالاً والأندر»، بحسب سعد الذي يوضح في الوقت نفسه أنّه «ليست لدينا لوحة مشابهة... الجزء المكتشف حتى الآن بطول عشرين متراً وعرض ستة أمتار، وثمّة أجزاء أخرى لم يُكشف النقاب عنها بعد».
أهمية الحدث تكمن أيضاً في أنّ المنطقة التي جرى فيها اكتشاف لوحة الفسيفساء التاسعة التي يتمّ العثور عليها في هذه المدينة استُعيدت قبل نحو أربع سنوات من الجماعات المسلّحة التي كانت تسيطر عليها وتسرقها على مرّ الوقت، لا بلّ وتبيعها عبر مواقع التواصل الاجتماعي!
يمكن القول إنّ هذا أوّل وأهم اكتشاف أثري موثّق يحصل منذ بداية الحرب السورية في عام 2011. وهو يندرج في إطار التعاون «المستمرّ» بين «نابو» والسلطات السورية.

(تصوير لؤي بشارة ــ أ ف ب)

هنا، تفيد مصادر مواكبة للعملية بأنّها جرت بـ«التكافل والتضامن بين أهل المنطقة الذين تحاول مروحة واسعة منهم حماية الآثار وبين «نابو» وبين المديرية العامة للآثار». وتتابع: «الحفاظ على الآثار والتاريخ لا يحصل من خلال المحاضرات والتنظير والجمعيات المموّلة من الخارج وتحكي لغته، بل بالممارسة الفعلية على الأرض، وعبر شعور المواطن بأنّ هذه الآثار ملك المجتمع وليس السلطة السياسية والأفراد». علماً أنّ التعاون بين «نابو» والمديرية لناحية الحفاظ على التراث السوري يجري على أكثر من صعيد (تدمر، دمشق، الرستن، ويجري التداول حول معرّة النعمان وحلب)، ويُعمل حالياً على إعادة آثار سورية مسروقة موجودة في سويسرا وبريطانيا قريباً. النجمة السورية التي واكبت العملية من قلب الحدث بصفتها عضواً في مجلس أمناء «نابو». وهي متخصصة في علم الآثار تعرب عن أملها في شراء مبان أخرى في الرستن «المليئة بالمواقع التراثية والتحف التي تنتظر من يكتشفها... من الواضح أنّ الفسيفساء تمتد على نطاق أوسع بكثير... الرستن تاريخياً مهمّة، وقد تكون مدينة تراثية مهمة جداً للسياحة».
معاناة سوريا مع تهريب الآثار تعود لما قبل الأزمة، لكنّ عام 2011 كان مفصلياً في هذا الملف، حيث عمدت الفصائل المسلحة المتعاقبة على تهريب الآثار كجزء من عملية تمويل ذاتي تحولت سريعاً إلى عملية مراكمة ثروات لقيادات هذه الفصائل وصولاً إلى تنظيمي «داعش» و«قوات سورية الديمقراطية» (قسد).
وتزيّن الفسيفساء العديد من مواقع الآثار السورية، وأتت أكثر من 11 سنة من الحرب على مواقع أثرية مهمة، من بينها كنيسة أم الزنار الأثرية في حمص التي تضرّر في وسطها أيضاً جامع خالد بن الوليد، كما تعرضت لوحات فسيفساء في الرستن للسرقة.