في إطار عروض الفيديو التي يقدّمها برنامج «صراع الطبيعة» الذي ينظمه «مركز بيروت للفن»، نشاهد غداً الأربعاء شريط «أكتوبر في باريس» (1962) لجاك بانيجيل (1921ـ 2010). شريط مهم يصوّر عنف جهاز الشرطة الفرنسي وعنصريته تجاه الجالية الجزائرية في 1961و1962، والمجازر التي ارتكبها رجال الشرطة بحقهم إبان التظاهرة السلمية للجزائريين التي خرجت في 17 تشرين الأول (أكتوبر) 1961 في باريس ونظمتها «جبهة التحرير الوطني الجزائرية اعتراضاً على حظر التجول بعد الثامنة مساء الذي فرض على الجزائريين وحدهم.
انتهت هذه المواجهة بقتل من 80 إلى 200 شخص على الأقل واعتقال وإصابة الآلاف بحسب التقديرات من بينهم نساء وحتى أطفال رميت جثثهم في نهر السين. ورغم أنّ الوثائقي صور في الستينيات، إلا أنّه ظلّ ممنوعاً في فرنسا نصف قرن ولم يسمح رسمياً بعرضه في الصالات إلا عام 2011 بعدما فارق مخرجه الحياة. من أسباب منع عرض الفيلم أنّ بانيجيل أصر على تصنيف المجزرة التي ارتكبت بحق الجزائريين بأنها جريمة ارتبكتها الدولة الفرنسية. مع العلم أنّ الأخيرة لم تعترف رسمياً بالمجزرة إلا عام 2012 حين صرّح الرئيس فرنسوا هولاند بما سماه القمع الدموي لتظاهرة 17 أكتوبر 1961.
في بدايته، يصوّر الوثائقي شهادات حية لجزائريين يصفون أعمال العنف والمداهمات اليومية للمنازل والاعتقالات المستمرة التي كان ينفذها رجال الشرطة بحقهم من غير ذنب، وكانت تصل إلى التعذيب المبرح وتحطيم العظام. ما هو صادم أكثر هو الأساليب الفاشية التي كانت تستخدمها الشرطة كتقييد أيدي وأرجل الضحية وإجبارها على الجلوس على قنينة زجاجية. في الوثائقي الذي صور بالخفاء عن الجهات الرسمية، يرينا المخرج مخيمات الجزائريين البائسة وقتها في ضواحي باريس (منطقة نوتير) ومراكز التعذيب الشهيرة. في جزء لاحق، يعيد تركيب مشاهد الاستعداد للتظاهرة السلمية التي نظمتها «جبهة التحرير...» للمطالبة برفع حظر التجول، مستعيناً بالشهود الذين يعيدون تمثيل أدوارهم في الفيلم. كذلك، يستخدم الصور الفوتوغرافية الموثقة ويمزج بينها وبين روايات المتظاهرين ليعيد تخيّل المجزرة التي حدثت بكل تفاصيلها المروعة كما شهادة الناجي الذي رموه في نهر السين بعد ضربه المبرح، أو تلك التي رأت أحد أفراد الشرطة يلقي طفلاً صغيراً في النهر بعد ضرب أمه. الحادثة أرعبت الأطفال الجزائريين الذين باتوا يرددونها في ما بينهم ويخافون رجل الشرطة كما يخاف بقية الأطفال من الغول مثلما يصوّر لنا المخرج.
يبرز جان روش في «الأسياد
المجانين» الطقوس الرهيبة الرامية إلى طرد شيطان الرجل الأبيض


لا يكتفي الأخير بتوثيق الأحداث، بل تبعاتها وآثارها النفسية على الجزائريين الممتدة ربما حتى الحاضر. إضافة إلى ذلك، فأهمية الشريط تكمن في كونه وثيقة نادرة لأحداث عُتِّم عليها ولم يُعترف بفظاعتها، بينما ينتظر أهالي وأقارب الضحايا إلى اليوم اعتذاراً رسمياً من الحكومة. وإذا صوّر المخرج الاحداث من وجهة نظر الجزائريين ولو أنه يستعين ببعض الشهود الفرنسيين، فذلك قد يعود عملياً إلى السرية التي أجريت فيها عملية التصوير، لكن أيضاً لاعتقاده الراسخ بوجوب إدانة فاشية جهاز الشرطة الفرنسي وممارسته ضد الجزائريين التي تتعارض مع كل مبادىء الديمقراطية. من الأفلام الوثائقية القديمة المهمة أيضاً في «مركز بيروت للفن» شريط «الأسياد المجانين» (1955 ـ 35 دقيقة ـ 30/7) للمخرج والأنثروبولوجي المعروف جان روش. يتناول السينمائي الفرنسي طقوس طائفة الهاوكا التي أسسها حوالى عام 1927 مهاجرون أفارقة في أكرا عاصمة غانا. يذهب أتباع طائفة الـ Hauka إلى مزرعة خارج المدينة حيث يجرون طقوس الاعترافات التي يتطهرون بها من ذنوبهم ثم يدخلون في حالة من النشوة (ترانس) حين تتقمصهم الأرواح فيبدؤون بالرقص وذبح الأضاحي التي يشربون دمها النيء كالدجاج أو حتى الكلب المسكين الذين يأتون به ويسلخون جلده ويتشاورون حول طريقة أكله. بغض النظر عن فظاعة المشاهد المصورة وقسوتها في بعض المقاطع، إلا أن أكثر ما هو مثير للاهتمام هو لعبة الأدوار التي يمارسها الهاوكا، فيتقمص الجنرال في أحدهم، والحاكم في آخر، وهذه الأرواح كلّها التي تستحوذ عليهم. هؤلاء الأسياد المجانين ما هم إلا وجوه الاستعمار التي أتى بها الرجل الأبيض الذي دخل عالمهم. بالنسبة إلى روش، هذه الطقوس الرهيبة ما هي إلا طريقتهم الخاصة والغريبة في التحرر من ثقل هذا الواقع الذين هم مستضعفون فيه، كعملية طرد شيطان الرجل الأبيض. وبحسب تحليل روش أيضاً، هذه المشاهد الرهيبة الفظيعة والرهيبة التي نراها ما هي إلا انعكاس للحضارة الغربية كما يراها الأفارقة.

* «أكتوبر في باريس»: 20:00 مساء الغد ـ «مركز بيروت للفن» (جسر الواطي)
* «الأسياد المجانين»: 20:00 مساء الأربعاء 30 تموز (يوليو) يليه عرض «أين الهليكوبتر خاصتك» ـ للاستعلام: 01/397018





ارتطام عالمين

يلي عرض «الاسياد المجانين» في 30 تموز، تقديم شريط آخر بعنوان «أين الهليكوبتر خاصتك؟» (1992 ـ 25 دقيقة) للبلجيكي جوهان غريمونبريز. يرصد الأخير تفاعل سكان قرية معزولة على جزيرة في غينيا الجديدة مع الظواهر الغريبة التي جلبها المستكشفون الذين هبطوا من الهليكوبتر. يعتمد المخرج على أصوات ومشاهد مختلفة ليجسد هذا الصراع بين العالمين الحديث والبدائي أو بين الآلة والطبيعة، فيما تأتي النصوص المكتوبة التي تظهر على الشاشة لتروي كيف وصف السكان الهليكوبتر لدى رؤيتها للمرة الأولى. وبدلاً من صوت الهليكوبتر، اختار المخرج إيقاع زعيق الطيور كشريط صوتي، مجسداً رعب الطبيعة من هذا الاقتحام لوحدتها وسكينتها، ما يمثل أيضاً القسوة والعنف الذي يمثله الارتطام بين عالمين مختلفين.