كان نهاراً معهوداً كبقيّة النهارات؛ حيث تتدفق الأخبار العاجلة من بقاع الأرض إلى شاشات الحواسيب والهواتف والتلفزيونات: المقاتلون يتدافعون للقتال في جبهات الحروب المشتعلة على أطراف الكوكب البائس، فيما ينهار جبل جليدي ضخم في أنتاركتيكا، وتحترق غابات شعب المايا... تقرر مغادرة الشاشة، إلى شاشة أخرى حتماً، ولعل القرار في ذلك كله عائد إلى الإشعار الذي أضاء شاشة الهاتف.كان إشعاراً من الكوميديان الفلسطيني، نضال بدارنة. لمَ لا؟ فلنستعد لنوبة من الضحك. لكنها لم تكن كذلك. ضغطت على الإشعار. يخبرنا الكوميديان أنه أخرج أغنية تدعى «بنك أتاك» لفرقة «ضربة شمس» الفلسطينيّة-السوريّة. فلنرَ... كان ذلك قبل نحو شهرين من الآن، شغّلت الفيديو؛ فاندفع، تحت وقع الموسيقى، وصوت حنان واكيم وسامر عساقلة، أدق مسام في جسدي للرقص. لم أصدق أنه بالإمكان إنتاج عمل عظيم مثل هذا.. وأين؟ عندنا هناك في فلسطين! أذكر أنني لم أتوقف عن الابتسام، حتى عندما انتهت الأغنية وبدأت أسماء المشاركين في العمل تظهر مع نهاية المقطع، فيما يتردد صوت بدارنة في الخلفية طالباً من الممثلين «تزبيط الوقفة».
اكتشفت أنه فاتني في غمرة الأحداث، عمل مثل هذا؛ إذ كانت الفرقة قد أطلقت في شهر آذار (مارس) الماضي، بعضاً من أغاني ألبومها الأول «شو بضر الأمل»، بعد عام من «هبة الكرامة» في أيار (مايو) 2021، الذي يتضمن ثماني أغنيات، وصولاً إلى إطلاقها في تموز (يوليو) الماضي فيديو كليب «بنك أتاك».
أمّا «بنك أتاك»، فهي ليست مجرد نوبة هلع قد تصيب صاحبها؛ فهي المصرف الذي «انتاب» البشرية على هيئة مرض استهلاكي لا يتوقف، جاعلاً منّا جثثاً متنقلة، مرتبطة بهواتف لم تكن بحوزتنا سابقاً عندما كنا نستمتع بالجلوس «تحت الشجر، ونملك رائحة المطر». ومع دخولنا العجلة الاقتصادية، انطلاقاً من أنّ كلاً منّا هو «برغي محتاج»، صار لزاماً علينا سداد ديون المصرف، أو ننام في السجن. ولأجل ذلك، ها نحن نستيقظ «كل صباح مع الدجاج»، ونتناول قهوتنا على عجل، كجزء من حياتنا الاستهلاكية المريرة، كما تصوّر كلمات الأغنية الأمر.
يصل صوت ضحكاتهم من إحدى الشقق في طابق ما في أحد الأبنية في مدينة حيفا. المسؤول عن ذلك، أصغرهم: مازن حمدان. فهو لا يأخذ الحياة على محمل الجد، يحدثنا كأنه إله الهزء، محرك دائرة العدم الكونية التي ندور فيها بلا كلل. على الطاولة بضع زجاجات من البيرة، وكأس ويسكي... وبعض من عدّة السهر. لو أنني لست في بيروت، قلت لهم... أو لو أنه ليس هناك احتلال، كان سيستغرق الأمر أن أقود سيارتي من مجد الكروم، إليكم، فأتعرف إلى العنوان من صوت الضحك الآتي من فوق.
كيف حدث هذا كلّه؟ يعني تشكيل الفرقة؟ هل جمعتكم الموهبة الموسيقية لكل واحد فيكم مثلاً؟ أتساءل بينما لا أزال تحت وقع الدهشة. يشرح أفراد «ضربة شمس»، الذين ألِفوا لقاء بعضهم البعض في الأنشطة السياسية والاجتماعية ولا سيما في أنشطة حراك «أرفض شعبك بحميك» الداعي لرفض الشبان الفلسطينيين الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال الإسرائيلي، أنهم بدؤوا العزف والغناء سويةً في جلسات خاصة خلال السهرات، ثم بدؤوا بالظهور أمام الناس خلال تقديم أمسيات فنية خلال الاحتجاجات الشعبية، مروراً بأمسيات شبيهة في مقاهٍ في مدينة حيفا. «كان الحضور في كلِ مرّة يتفاعل معنا بشغف، مطالباً بالمزيد... مع مرور الوقت، بدأ المحبّون لما نقدمه، يطلبون منّا توسيع رقعة الانتشار، طالبين أن نقدّم عروضاً فنيّة في غير منطقة.. وهكذا ذات يوم، قلنا مَ لا ننشئ فرقة؟ ببساطة، اتخذنا قراراً بذلك، ونشأت الفرقة! ورحنا نقدم عروضنا في أكثر من منطقة في فلسطين».
ينحدر أصحاب الفرقة من فلسطين ومن الجولان السوري المحتل أيضاً، اثنان منهم رفضا أداء الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال، التي يفرضها الأخير على شبان الدروز الفلسطينيين حصراً. يعني أن سامر ومازن، الفلسطينيين الدرزيين، رفضا أن يكونا جنوداً في جيش يقتل أبناء جلدتهم، بالرغم من كل الحملة الإسرائيلية الممارسة ضدهم وضد أقرانهم. خرجا، كما يمكن أن يُقال، «أصحاء» من معامل التدجين والأدلجة المدرسية التي تتبع منهاجاً إسرائيلياً خاصاً بالدروز، تشدد فيه على المكوّن الدرزي كقومية خاصة منفصلة عن العرب الفلسطينيين، مروّجة أن «الدروز جزء من المكونات الإسرائيلية». بناء على هذه الخلفية، يمكن فهم المسلك الذي قرر أعضاء الفرقة عبوره. وهو مما لا شك فيه، مسلك يترجمه هؤلاء من خلال فهمهم ومعايشتهم للواقع المركب في الداخل المحتل، سواء من خلال الموسيقى أو كلمات الأغاني التي تتطرق إلى هذا الواقع، تارةً بسخرية، وتارة بجديّة والتزام، وأحياناً بدعوة صريحة للأمل على اعتباره «غير مضر».
الملفت في «ضربة شمس» هو أنّها فرقة بدأت فعلياً من الصفر، من اللاشيء، مستمدّة طاقتها من العيش في مجتمع يرزح تحت نير نظام استعماري، تكتسب فيه كل الأشياء معانٍ سياسية وهو ما انعكس على كلمات الأغاني وضمنها تلك التي لا تتطرق إلى الشأن السياسي مباشرةً.
جذرّية أعضاء الفرقة طاولت أيضاً تمويلها. فكما يشيرون لـ«الأخبار» رفضوا الغناء في مسارح بلديات الاحتلال، كما امتنعوا أن يكونوا غسيلاً ثقافياً له برفضهم أي تمويل من وزارة الثقافة الإسرائيلية، فضلاً عن أنهم ذات يوم بنوا بأيديهم إستاداً خشبياً بتمويل من مقربين ومحبين لهم، لعرض إحدى حفلاتهم في مدينة حيفا. اليوم، باتت «ضربة شمس» شهيرة في فلسطين، غير أنها تطمح لأن تتصل بامتدادها في العالم العربي؛ وأن يقف أبناء فلسطين والجولان السوري المحتلين ذات يوم على مسارح الأقطار العربية وعواصمها، سيّما بيروت التي يحرمهم الاحتلال، ويمنعهم من الوصول إليها. وعلى سيرة بيروت، تؤكد الفرقة أنها حضّرت لها «مفاجأة» ستكشف عنها العام المقبل، مع حلول ذكرى انفجار المرفأ في الرابع من آب.
«حلمنا أن نقف على خشبة مسرح المدينة في الحمرا»، يوضح سامر عساقلة، كاتب وملحن أغاني الفرقة، مشيراً إلى أنه «نواجه مرةً الاحتلال الذي يحظر تواصلنا مع امتدادنا العربي، وأيضاً بعض المنصات والمواقع الثقافية الشهيرة في الداخل، خصوصاً تلك التي دأبت على تصدير نخب ثقافية معيّنة باتت من خلال التركيز والتشديد عليها، بمثابة عنوان ثقافي لفلسطينيي الـ48».
هوية موسيقية حديثة ترتكز على الـ «فيوجين»، وتمزجها بكلمات الأغاني الهادفة


وفي هذا الإطار، تصيب «ضربة شمس» أيضاً أولئك المتعطشين لفنٍ من نوع مختلف، بتبنيها هوية موسيقية حديثة ترتكز على الـ «فيوجين»، وتمزجها بكلمات الأغاني الهادفة «فلا موسيقى بلا هدف» بخلاف الأنماط الموسيقية «الهابطة» التي اجتاحت فلسطين أخيراً، ونالت رواجاً كبيراً.
الألبوم الذي سيطلق كاملاً الشهر المقبل، يضم ثماني أغنيات، معدّة لتقديم «جرعة من التفاؤل والأمل، وتصوير للواقع الاجتماعي والسياسي والفني في فلسطين، مع لمسة ساخرة بين طيات كلماتها من أجل التعبير عن حياة أفرادها وأقرانهم من أبناء الجيل الحالي». وكل ذلك «من منظور حقيقي ومتفائل رغم صعوبة الواقع وتعقيداته».
«ضربة شمس» التي انطلقت من قلب مدينة حيفا قبل أربع سنوات، وأسسها عساقلة، والفنانة حنان واكيم، تضم اليوم أيضاً كلاً من السوري هشام أبو جبل (عازف الغيتار)، ومازن حمدان (عازف غيتار باص)، هيمان سليمان (إيقاعات).