«الطبيعة البشرية» كانت موضوع معرض ثائر كرم في غاليري «آرت ديستريكت» في الجمّيزة. معرض ضمّ عشرين صورة بالأبيض والأسود تؤكّد على أنّ الفنّ الفوتوغرافيّ بات له حضورٌ وفسحة عرض أسوةً باللوحة المرسومة، ومع ذلك لا يزال فنّاً هامشيّاً عندنا ‏قياساً بالاهتمام والتقدير اللذين يحظى بهما عالميّاً.

الاشتغال على تضادّ (كونتراست) الأبيض والأسود، والضوء والظلّ، ينطوي على حسّ فنّي مرهف وبراعة تكوين للّقطة لتوليد إحساس بدفء المشاعر، وأحياناً بالرومانسية كما هي الحال في أعمال ثائر كرم الذي يجذبنا إلى حميميّة الجسد والقبلة بين حبيبين في أماكن طبيعيّة متفرّقة، من زوايا بعيدة أو قريبة، على مقعد في حديقة أو رصيف أو خلف جذع شجرة كبيرة هرمة. المساحة التكوينيّة مهمّة في هذه الأعمال، ‏فضلاً عن اختيار زاوية النظر ونكاد نقول «التلصّص» على الشاب والفتاة اللذين لا يتردّدان في تبادل القبل أمام عيون المارّة، ولم يبق هذا المشهد غير مألوف عندنا مثلما كان ماضياً. في هذه السلسلة الفوتوغرافيّة سرديّة بصريّة لأحوال عشقيّة، أي أنّها تدور حول ثيمة واحدة هي تقفّي الانتقالات الحميميّة للحبيبين الفتيين، عن بعد، وتمجيد الحبّ (بدلاً من العنف الشائع في فنون اليوم) ‏وجمال المنظر والطبيعة والأمكنة العامة. وإن راودنا إحساس بشكل من أشكال «التلصّص» كما أسلفنا، إلا أنّه من النوع المقبول لأنّ غايته فنيّة وإنسانيّة أملت على المصوّر عنوان معرضه، فما تلتقطه عدسته هو جزء من ‏الطبيعة البشريّة العاديّة، أي الحبّ والعشق والجسد الملاقي جسداً في لهفة واتّحاد.
‏ينجح ثائر كرم في الجمع بين الركائز التقليدية للفنّ الفوتوغرافي على نحو ما أرساه هنري كارتييه بروسون ـــ وأسلوب المصوّر اللبناني واضح التأثر به ــ والاتجاهات الحديثة في هذا الفن الذي لم ينل عندنا ما يستحق من تقدير ومتابعة. جماليات الأبيض والأسود والضوء والظلّ لا يتمتّع بها أيّ فنّ آخر، حتى السينما التي نهلت بعض تأثيراتها من الفن الفوتوغرافيّ، لكن بمجرّد أنّ الصورة فيها متحرّكة، فإنّها فقدت الخاصّية التي تنفرد بها الصورة الفوتوغرافية: الثبات. رغم انعدام الحركة في هذا الفن، إلا أنّه ينطوي على ديناميكية هائلة في المعنى والدلالة والتأثير. هنا تكمن فرادة الصورة الفوتوغرافية وألقها، فهي تثبّت الوضعية لكنّها تحرّك المعنى الناجم عن التأمّل في مناخها وتفاصيلها والدلالات الكامنة فيها.
سرديّة بصريّة ترمي إلى تمجيد الحبّ


يأخذنا ثائر كرم إلى حالات العشق، وإلى جمال الطبيعة (الشجر ماثل بقوّة في فوتوغرافياته) والأماكن الأليفة واليومية (‏الرصيف، الشارع…). يأسرنا ‏في أعماله الاستخدام الفنيّ المحض، الآسر والمنادي للعين، لناحيتي الأبيض والأسود، والضوء والظلّ، والاختيار الدقيق للزوايا، والتكوين للكادر بين واسع بعيد، أو متوسّط، ولا زاوية قريبة البتّة، إذ يكون قد اقتحم بذلك بشكل فظّ ووقح حميمية العاشقين، ويكفي أنّه سمح لنفسه بـ «اقتناص» لحظاتها عن بعد، وفي ذلك «جريمة» فنّية تُغتفر.