لمحطات القطار في إيطاليا نكهة خاصة يميزها عبق الإكسبرسو كما كانت دوماً، لكن نظرة على الوافدين والمغادرين عبر معابر المدن الذين تحملهم سكك الحديد تشي بالكثير. هنا نشهد على انقلاب الصورة: أفارقة، عرب، وعيون لوزية. سحنات سوداء، سمراء وصفراء تطغى على الصورة الكبيرة. إنه عالم ينقلب. مقاهي الشوارع التراثية صارت ملكاً صينياً، حتى النادلة وهي تناولك فنجان القهوة الأبيض المميز هي أيضاً صفراء، حتى اللحام المجاور يلوك الإيطالية بلكنة صعيدية بينما أفريقيا تكاد تكون كلها هنا بأزيائها المزركشة. لا يغيب الإيطاليون حتماً عن المشهد وهم يستسلمون لواقع جديد: مع كل صباح تتضاعف أعداد الذين ينطقون بالإيطالية وتتناقص أعداد الإيطاليين. لا يبدي الإيطالي العادي وهو يستقلّ مترو الأنفاق صباحاً بكسل ورتابة أي غضب أو ردة فعل على انقلاب المشهد. العالم كله يتغير وإن يكن نحو الأسوأ. ما عاد الفرح والأمسيات الرقيقة سمة الحارات الإيطالية، صارت الهموم أكبر بكثير . يستذكر جيل عايش الليرة الإيطالية قبل أن يغتالها اليورو تلك الأيام الجميلة ويترحّم عليها. ما عادت الحياة اليومية ههنا هي ذاتها، كل الأشياء الجميلة تنقرض، الأناقة، الأطباق الغنية، الجلسات الحلوة على الأرصفة، الموسيقى، المسرح ، السينما وحتى أدراج الكنائس أيام الآحاد. يستجمع الحنين ذاته في محاولة عودة، في اختبار ردة بالزمن إلى الأيام الخوالي، في لحن على أوتار الخائفين والخائبين وبعض الغاضبين، تخرج جورجينا ميلوني وهي تلوح بالقدّيسين: سان فرنشيسكو وسانتا ريتا وسان جينارو، وتصدح بصوت بافاروتي، وتعرف ألحان فيفالدي، وتستجمع سينما فلليني البائدة وتنفض غبار مسارح روما وفلورنسا. تحلم بمايكل أنجلو جديد وبألوان زيتية تعيد تشكيل المكان. ليس الغزو الصيني وحده هو ما يؤرق ميلوني ولا السحنات السمراء وهي تتكاثر بل الأمركة ذاتها التي تطيح بكل شيء جميل. الفاشية الشقراء ابنة الشيوعي السكّير الذي انتهى في سجن إسباني وهو يحاول ترميم إفلاسه بشحنة حشيش مغربي غاضبة.
ليس الغزو الصيني وحده هو ما يؤرّق ميلوني ولا السحنات السمراء

تقول جورجيا إنه عندما وصلها خبر موت والدها، لم تشعر بالحزن ولم تشعر بالتشفي ولم تشعر بشيء وإن هذا ما يخيفها. في حقيقة الأمر، تبدو جورجيا وهي تلهج بطفولتها الحزينة وكأنها إحدى شخصيات روايات دوستويفسكي. أنثى تتمرد على عالم ينهار. تقول إنها لا تريد لنسختها هي أن تتكرر وهي تتكرر ملايين المرات في عالم انهارت فيه القيم واجتاحه الهمبرغر واللامبالاة. في العاشرة من عمرها، كانت الطفلة جورجيا قد اختبرت بؤس الواقع، وفي الخامسة عشرة كانت تقود احتجاجات طالبية، هي التي لم تكمل دراستها الثانوية ولم تعرف قدماها أدراج الجامعة. اليوم يخشى الإيطاليون البرد ويستعدون له بكنزات الصوف التي قد تكون هي أيضاً صناعة صينية ويقتصدون في عدد دقائق الاستحمام، ويحاولون أن يتعايشوا مع أكبر قدر من العتمة للهروب من فاتورة الكهرباء، ويتبعون إرشادات السلطات في أصول توفير الغاز عندما تصل طنجرة السباغيتي إلى درجة الغليان. إنهم فعلاً صاروا أكثر شبهاً بطفولة ميلوني وربما لهذا صارت جورجيا هي القائد وصارت هي صوت الجموع. هذه الجميلة الشقراء بلكنتها السوقية وتعابيرها الحادّة هي بارقة أمل وهي بيرق تحدٍّ في عالم استهلكته العولمة واستبدلته بهذا البازار المأساوي. هل ستكون جورجيا هي قيصر روما وحولها ألف بروتوس يحومون؟

* طبيب لبناني من إيطاليا