انطلاقة غسان سلهب في مجال الفن السابع لم تحدث بين ليلة وضحاها. وُلد المخرج اللبناني وترعرع في السنغال حتى عمر الـ13 حين عاد مع عائلته للعيش في لبنان. هناك، كانت السينما الأمر الوحيد المتاح له في غياب التلفزيون ووسائل أخرى. لم يتلقّ الدروس في الجامعة، بل تعلّم كل ما يعرفه على الأرض كما يقول لنا: «لا يتوقّف المرء عن التعلّم. بالنسبة إلي، توضّحت الأمور تدريجاً، وحتى لو أحببت الأفلام، فهذا لا يعني بالضرورة أنّ الأمر كان سيقودني إلى اختيار السينما لاحقاً في الحياة. كل مرحلة من الحياة، يمكنها أن تغيّر أموراً عدّة. وكلما كثرت التجارب، كان الأمر أفضل. الخطورة الكبرى في نظري، وليس فقط في مجال السينما، هي عندما يظنّ المرء أنه وصل إلى مكان ما. عملت على الأرض على أفلام أخرى، قصيرة وطويلة، وساعدت في أفلام على الصوت والصورة والإنتاج. عشت 27 سنة بين باريس وبيروت حيث عايشت ما يسمى الحرب الأهلية أو ما اعتبرها الحروب الأهلية. عملت في كل شيء، إلى أن كبرت الأمور من دون أن أدري. لست من الذين كانوا يحلمون في إنجاز الأفلام في صغرهم. كانت لديّ أحلام أخرى. لم أجرؤ على اعتبار نفسي مخرجاً إلا بعد فيلمي الثاني «أرض مجهولة» (2002). الأفلام العظيمة التي شاهدتها جعلتني أتردد في القول إنني أنا أيضاً مخرج أفلام. هو ليس تواضعاً بالمعنى الغبي للكلمة. فالأفلام علّمتني الكثير، وكذلك الناس الذين قابلتهم والكتب التي قرأتها والموسيقى التي سمعتها. السينما لا تغني نفسها بالسينما فحسب، بل باللوحات والناس أيضاً».
نمط الأفلام
قبل سنوات، قال لنا سلهب في مقابلة إن على الجمهور أو المشاهدين وهي الكلمة التي يفضّلها أن يخطو صوبه أيضاً، نظراً إلى صعوبة استقطاب أعداد كبيرة من الأشخاص إلى الصالة المظلمة من أجل رؤية نمط الأفلام التي ينجزها. في هذا الصدد، يؤكد أن ما كان يعنيه هنا هو على اعتبار أنه «لطالما كنت أنا من يخطو نحو أي فنّ وليس العكس. لم أكبر في عائلة مثقّفة بل في عائلة عادية. لم يملأ الفن أو الكتب طفولتي. وأنا أفضّل كلمة مشاهدين، بمعنى الشخص الذي يشاهد فيلماً إلى جانب آخر وخلف آخر. لست سياسياً يصرخ أمام الناس. هناك فنانون يتعاملون بطرق مختلفة مع اللغة أو الرواية. لم أخترع البارود فهو ليس شيئاً جديداً». ويضيف في المقابل: «أتحاور دائماً مع شخص آخر من أجل الفيلم. ففي النهاية، دعونا لا نكذب، لا أحد ينجز فيلماً لنفسه. وإن تشاجرت مع المنتج، ليست لدي مشكلة. فأفلامي في النهاية ليست مكلفة. أعتمد على المِنَح، وإن لم أحصل على أي تمويل، قد أكتفي بتصوير الجدران أو نفسي وأنا أرقص».

صعوبة الإنتاج
من الطبيعي أن يجد مخرج أفلام غير سهلة ولا شعبية، مشكلة في مجال الإنتاج، خصوصاً في لبنان. في النهاية، يقرّ سلهب: «لا أنجز أفلاماً يريدها السوق بشدّة. أحياناً يحتاج السوق أفلاماً مثل أفلامي عندما يصبح للمخرج اسم كبير. لا يهمهم العمل هنا، ولا جودته بل الاسم. ولكن أنا أكره التذمّر. أعمل بالموجود. أفكر في هذه الأمور عندما أكتب. ويكون هذا نوعاً من التحدي الفني.

غسان سلهب: لا أنجز أفلاماً يريدها السوق بشدّة

ظنّ البعض في الخارج أن فيلم «الوادي» كلّفني 4 أو 5 ملايين دولار. كما قدّرت شركة الإنتاج في لبنان الكلفة بهذا المبلغ. إلا أنني كنت مصراً على أنه من الممكن تصويره بأقل من ذلك. في النهاية، أنا لست من المخرجين الذي يصوّرون من كل الزوايا مثلاً. هناك خيارات، سواء كانت فنية أو شخصية أو ناتجة من الإمكانات المحدودة. تؤثر الميزانية على الخيارات بالطبع ولكنني لا أحبّ التذمر. أفكر دائماً في الحلول لكي أتمكن من التصوير. قد تكون هذه الناحية الإيجابية الوحيدة التي أفكّر فيها. وإن أدركت أنه لن يكون بإمكاني تصوير المشهد، فأتخلص منه. في فيلم «أطلال»، أوقفت التصوير خلال أحد المشاهد وقلت لفريق العمل إننا لن نصوّر هذا المشهد اليوم لأننا بحاجة إلى إمكانات ولن نستطيع فعل ذلك، من دون الدخول في التفاصيل. نحن في عالم ثالث أو رابع، وكنا نعيش فوق طاقتنا. كنت رافضاً ذلك سينمائياً. في نوع الأعمال التي أنجزها، أدرك تماماً أن الإيرادات لن تصل إلى المليون، بل إلى نصف هذه القيمة على سبيل المثال. أنا أعي هذا الأمر تماماً وأعلم أين أعيش».

الشخصيات
لا يميل سلهب إلى تركيب الشخصيات. فالممثلون في أفلامه ليسوا هنا ليخبروا ما حدث من قبل. ولكن من المؤكد أن في تلك الشخصيات شيئاً منه، ليس بمعنى أنهم يخبرون سيرته الذاتية. يروي لنا أن هذا الشيء حاضر على سبيل المثال في شخصية فادي أبي سمرا في فيلم «الجبل» كما في شخصية الرجل الذي يؤديها علي سليمان في «النهر»: «أستشهد بفلوبير الذي كان يردّ على من يسأله من هي مدام بوفاري، فيقول أنا هي. أنا موجود في الوقت عينه في كل مكان وفي لا مكان. أنطلق من نفسي وأطلب من الممثل أن يستكمل الشخصية، على أمل أن يحوّلها ويحملها إلى مكان آخر. في «الوادي» أيضاً وضعت أموراً من نفسي، وإن بدرجة أقل».

العلاقة بالمدينة
لبيروت مكانة كبيرة وأساسية في أفلام سلهب منذ انطلاق مسيرته. ولكن تلك العلاقة سرعان ما تزعزعت وارتبكت. خلال إنجاز «الجبل» عام 2009، كان سلهب قد كتب مشروعاً حول المدينة مع عبلة خوري. لكنه قرر في نهاية المطاف ألا ينجز الفيلم لأن علاقته ببيروت تفككت من الداخل كما يقول مضيفاً: «شعرت أنني لم أعد أراها. من الضروري أن أرى الشيء قبل أن أصوّره لكي لا يتحوّل ديكوراً من دون أي معنى. «الجبل» كان مشروعاً خاصاً أُنجز من دون كتابة.
على المُشاهد أن يحاول عيش التجربة التي تُطرح عليه بما هي، ويرى كيف يتفاعل معها (غ. س)

اعتمدنا على تمويل خاص. عندما كنت أنجز هذا الفيلم، أتت فكرة «الوادي» و«النهر». لم تكن فكرة الثلاثية بمعنى الرواية بل بمعنى اللوحات Triptyque. ما يربطها مبطّن وهو نوع من التهديد ولكن ليس المباشر. علاقتي مع بيروت تعود وتختفي مراراً وتكراراً، مع كل ما يحدث و ما زال يحدث في السنوات الأخيرة. عندما كنت أعمل على «النهر»، عادت علاقتي مع بيروت، خصوصاً أنني أسير كثيراً على قدمي في المدينة. قد أصوّر من جديد، مع كل ما مررنا به ويمرّ علينا فيكاد يدهسنا. يؤذينا ويدمّرنا، ولكن لن أستخدم تلك العبارات المستهلكة مثل «تروما» وغيرها. قد يعود الأمر أيضاً إلى كوني قضيت الكثير من الوقت في الشوارع منذ انطلاقة التظاهرات حتى انتشار الكوفيد وغيرها. كلّها تراكمات سواء كانت في بيروت أو خارجها. لا أدّعي أنني قد أغيّر شيئاً بإنجاز الأفلام. وبالعودة إلى تلك العلاقة، فهي عادت ولكن ليس مثل قبل، فلنقل إنّها علاقة جديدة ومختلفة».

تركيبة
بالحديث عن الأسلوب الخاص الذي اعتمده منذ البدايات حتى الآن، يحكي لنا: «بالنسبة إليّ، الرواية هي انطلاقة للذهاب إلى مكان آخر لا لأخبرها. هذا ينطبق عليّ أنا. فهناك الكثير من الأفلام التي أحبّها والتي ليست كذلك. فأنا لست ممن يظنون أنه ينبغي للسينما أن تتبع خطاً واحداً، وإلا فلأدخل في جيش داعش». أما عن العلاقة بين أفلام الثلاثية، فيقول: «كيارستامي كان يقول إن أفلامه مليئة بالفراغات لكي يملأها كل مُشاهد كما يريد. في لبنان التهديد النفسي في الداخل. في «الجبل»، الرجل كذب ولكنه نظّم كذبته وهو ليس قادراً على المواجهة. أنا أثق بالتراكم الذي تأتي به الأفلام.

من فيلم «النهر»

هي غير مرتبطة بطريقة مباشرة، بل بطريقة مبطّنة. ولكنني لا أحب أن أكشف عنها لأنني سأبدو كأنني أفسّر نصّاً وهذا أشبه بالكذب. أنا ضدّ هذه الأمور. الحياة ليست معادلات، وإلا ستفقد إثارتها وتصبح مملّة. قال لي أحدهم إن أفلامي قد تحدث في أي مكان آخر، فأجبته: مؤكد لا. المكان الذي تعيش فيه يؤثر على تركيبة الفيلم. فلا يمكن أن نعيش في بلد مماثل وننجز فيلماً عن أمر غير عادي بتركيبة عادية. لا أراها بهذه الناحية سينمائياً. لا أفهم كيف ما زلنا نفكّر أنه بإمكاننا أن نخبر عن شيء تفكك بطريقة مركّبة. هي دعوة إلى دخول في الفيلم، ولكن لا يعني ذلك أنّ المشاهد سيحبّه. ليس هذا ما في الأمر. عليه أن يحاول عيش التجربة التي تُطرح عليه بما هي، ويرى كيف يتفاعل معها. عادة لا أفكّر في هذه الأمور عندما أنجزها. أعطي مثل فيلم لبناني شعبي. برأيي لا يجب الحكم عليه على أساس أنه فيلم مؤلف لأنه ليس كذلك. ومن هنا يمكن أن نقرر إن كان مصنوعاً بطريقة جيّدة أم لا».

الصوت
لا يكتفي الصوت في مرافقة أفلام سلهب، بل يتحوّل إلى أشبه بشخصية أو بمكوّن أساسي للفيلم: «الصوت ليس هنا ليرافق الصورة وأحياناً يعاكس أحدهما الآخر إذا تطلّب الفيلم. كلنا نعلم أننا قد نسمع أموراً ولا نرى شيئاً. الصورة لا تعطي ما يعطيه الصوت. قوة السينما هي بكل أدواتها إن كانت الصورة أو الصوت أو اللون. ليس من تناقض في ألوان «النهر» كما أدركنا باسم فياض وأنا لدى التصوير. ولم نذهب إلى هذا التناقض بين الداكن والمضيء. دور الصوت في «النهر»، خصوصاً كان عكس إحساس شخصين هما دائماً مع بعض. هو يخطو باتجاهها ولكن من الواضح أنها هي لا تريد العودة إلى العلاقة. لست مهتماً بإنجاز صوت على حساب الفيلم. ففي بعض الأفلام، يبدو الصوت وكأنه أُسقط لاحقاً على المَشاهد. أما أنا فأريده جزءاً من العمل. أما صوت الطائرات الذي يرافق الأفلام، فهو بطبيعة الحال يعود إلى وجود جيراننا الدائم من دون أن أدخل في التفاصيل. فهذا أيضاً ضمن جو التهديد ومن الأمور التي تربط بين الأفلام. يبدأ «الوادي» حيث ينتهي «الجبل». كما يبدأ «النهر» حيث ينتهي «الوادي». من الصعب فهم وجود الطائرات طوال الوقت في الأفلام بالنسبة إلى الأجانب ولكن المُشاهد اللبناني يفهم الأمر تماماً».

مشاريع مستقبلية
عُرض فيلم «النهر» الذي انتهى سلهب من العمل عليه بداية عام 2020 ضمن المسابقة في «مهرجان لوكارنو» العام الماضي. كما عُرضت الثلاثية في «مهرجان قابس» هذا العام. ورأى سلهب أنه من الملائم أن تُعرض الثلاثية بالتسلسل في الصالة اللبنانية أيضاً رغبة منه في أن يشاهدها الناس في المكان الذي يعيش فيه. في ما يتعلّق بمشاريعه المستقبلية، يقرّ المخرج: «بصراحة، لا أعرف الكثير عن مشاريعي الآتية في ظل هذا الوضع. كما أنني بعد الانتهاء من «النهر»، صوّرت أشرطة قصيرة أسمّيها تجريبية. منذ فترة كتبت نصاً عن بيروت، ولكن ليس عن حالة المدينة الآن لأننا لا نعرف ما سيحصل غداً. ربما في العام المقبل أنجز العمل إن وجدت تمويلاً وهو أمر أصبح أصعب. أكتب أيضاً خارجاً عن نطاق السينما، وأتمنى أن تعود النية في تصوير الأفلام التي أسمّيها تجريبية.
منذ فترة كتبت نصاً عن بيروت ولكن ليس عن حالة المدينة اليوم لأننا لا نعرف ما سيحصل غداً

فهي غير مكلفة ويمكنني أن أنجزها بنفسي بالاستعانة بهاتفي والكمبيوتر. كثيراً ما تضيع المشاريع حين يرسلها المرء وينتظر الردّ عليها. في ورش العمل أرى كيف يُحَث المشاركون على إعادة كتابة نصوصهم من جديد مرات عدة. فأقول لهم ما الذي تفعلونه، ابدؤوا بالتصوير مباشرة لا تضيّعوا المزيد من الوقت. قد يكون مجرّد كلام ولكنه رأيي. أنا في النهاية لا أعيش في فقاعتي بل حاضر هنا وكل ما يحصل يؤثر فيّ».



«النهر» آخر ثلاثية القلق والتهديد
ليست أفلام «الجبل» و«الوادي» و«النهر» ثلاثية بالمعني التقليدي للكلمة. فلا شخصيات تعود نفسها ولا مغامرات أبطال تستكمل من جزء إلى آخر، حتى القصص غير متشابهة. وعلى الرغم من ذلك، هناك ما يربطها في الباطن بطريقة شبه عضوية ويجعل الإحساس نفسه يمتدّ من عمل إلى آخر، خصوصاً إن شاهدها المرء بالترتيب التي طُرحت فيه. في الظاهر، هي أفلام يتخذ كلها من الطبيعة موقعاً لها، سواء كان الجبل أو الوادي أو الغابة في الوادي. التصوير الجميل لأدق تفاصيل الطبيعة في مناطق لبنانية خلابة، تعكس إحساسها في داخل المشاهد. أوراق الخريف وصوتها في «النهر»، كذلك صوت الرياح والمياه كلها عناصر تجعل المشاهد يعيش اللحظة بدرجة من الواقعية وهو جالس على مقعده في الصالة. ففي «النهر»، نرافق شاباً وشابة نفهم أن علاقة عاطفية كانت تربط بينهما وانتهت الآن. هما يتناولان الغداء في مطعم يقع كما يبدو في إحدى المناطق الجبلية. مشهد افتتاحي طويل خالٍ من الحوار، سيكون مدخلاً إلى الجو المربك وغير المستقر الذي يخيّم على علاقة هذا الثنائي المنتهية والعالقة في الوقت عينه. ثم نجدهما يسيران في الغابة التي تخرق سكونها وغموضها بين الحين والآخر الطائرات الحربية في الجو. لن نفهم تماماً لمَ هما متواجدان في هذا المكان، ولكن تدريجاً، ندرك أن الرجل لم ينته تماماً من هذه العلاقة بينما الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى المرأة على الرغم من الحب الذي ما زال موجوداً. «الحب لا يكفي» تقول له في ما يدلّ على أنها تعي تماماً انتهاء العلاقة. التهديد الذي يسيطر على أجواء الأجزاء الثلاثة، يشعرنا به الصوت الحاضر بكل عناصره. ولا نعني الصوت كموسيقى فحسب، بل كل ما فيه من أصوات طبيعة وتنفس إلى صوت الطائرات الحربية الذي يلاحق أذن المشاهد من فيلم إلى آخر في أعمال سلهب، معززاً شعور الخطر هذا وعاكساً حالة عدم الاستقرار التي تعيشها الشخصيات، فتمثّل في الوقت عينه الحالة الجماعية التي يعيشها كل من يسكن هذا البلد. بإتقان وبراعة، ينقل سلهب هذه الأحاسيس، غير مكترث بدراسة نفسية للشخصيات بقدر ما يستخدمها في سياق الفيلم. ففي مكان واسع وغير حميمي تتحرك ضمنه الشخصيتان، كان ضرورياً أن يستمّد الأحاسيس من تفاصيل الأصوات والدعسات والتنفس.

* ينطلق عرض ثلاثية «الجبل» و«الوادي» و«النهر» اليوم في سينما فوكس ـــــ العروض مجانية